كيف علينا قراءة ما جرى في مجلس الأمن حول المشروع الفلسطيني لإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية، فوزير الخارجية الأميركي "جون كيري"، خرج بأقل الخسائر، كي لا تضطر الولايات المتحدة للجوء إلى حق النقض "الفيتو"، والإحراج على المشروع الفلسطيني، وذلك لعدم توفر تسعة أعضاء في مجلس الأمن المطلوبة، لإدراج المشروع على جدول الأعمال، حيث عمل على مدار الساعة، عبر الاتصالات الهاتفية والمباشرة، مع أعضاء المجلس، للضغط عليهم لمعارضة المشروع، أو على الأقل الامتناع عن التصويت، فقد شهد يوم الأربعاء "31/12/2014" توتراً وترقباً في مجلس الأمن، فقد أيد المشروع كل من: فرنسا، لوكسمبورغ، روسيا، الصين، الأرجنتين، تشيلي، تشاد، والأردن مقدمة المشروع، بينما امتنعت كل من بريطانيا، ليتوانيا، رواندا، نيجيريا، وكوريا الجنوبية، عن التصويت، أما الولايات المتحدة، وأستراليا، فقد عارضوه، أي أن النتيجة كانت (8) مؤيدين و(5) امتنعوا عن التصويت، و(2) عارضوه، فإسرائيل اعتبرت أن التصويت كان بمثابة نكسة للفلسطينيين، مع أن الفلسطينيون كانوا يدركون ولم يتفاجأوا من النتائج، فإن من يتمعن فيما جرى بمجلس الأمن، ليرى أن حصول الفلسطينيين على (8) أصوات هو نجاح، وحصول الولايات المتحدة على صوتين رغم عظمتها وضغوطها، فهو الفشل بعينه، وهزيمة للولايات المتحدة، وليس كما يروجون بهزيمة "أبو مازن"، فنيجيريا التي تعهدت للفلسطينيين بتأييد المشروع، ونتيجة للضغوط الأميركية-الإسرائيلية، التي مورست عليها تراجعت في النصف الساعة الأخيرة قبل التصويت، فانضمت إلى الدولة الممتنعة، ليفقد الفلسطينيون الصوت التاسع، ويحبط المشروع، فكان للتحالف بين إسرائيل ونيجيريا، من علاقات أمنية، وصفقات أسلحة، وعلاقات تجارية واسعة، وتقديم إسرائيل مساعدات حربية لنيجيريا على "بوكو حرام" الإرهابية، وعلاقات صداقة وزيارات أكثر من مرة للرئيس النيجيري إلى إسرائيل كل هذا أدى إلى قلب الميزان، وعلى الرغم من التوتر القائم بين إسرائيل والولايات المتحدة، وتوجيه "نتنياهو" الصفعة تلو الأخرى للرئيس الأميركي، فإن العلاقات الإستراتيجية الأميركية-الإسرائيلية، تتفوق عن رغبة أميركا المزعومة بحل الدولتين، وفي علاقاتها مع الدول العربية، حتى أن جريدة "يديعوت احرونوت 31/12/2014"، نقلت عن مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى قوله: علينا تقديم الشكر للولايات المتحدة، وأنه ثبت لنا من جديد، أنه لا يمكننا الاعتماد على أحد سوى واشنطن.
في ديوان رئيس الوزراء "نتنياهو"، وفي الخارجية الإسرائيلية، احتفلوا بفشل المشروع الفلسطيني في مجلس الأمن، لكن الاحتفال كان مبكراً، وعادت الصدمة لإسرائيل، بعد أن وقع الرئيس "محمود عباس" على (20) ميثاقاً من مواثيق الأمم المتحدة، للانضمام إلى مؤسساتها، بما في ذلك اتفاق روما، ومحكمة الجنايات الدولية في "لاهاي"، حيث وجه "عباس" صفعة أخرى إلى إسرائيل والولايات المتحدة، وهذا الانضمام لا يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن، ولا يبطله الـ"فيتو" الأميركي، ورغم الضغوط والتهديدات الأميركية والإسرائيلية، أعطى للرئيس الفلسطيني المزيد من المصداقية بنظر شعبه، ونظر العالم، إذ وفى بتعهده أنه إذا لم يمرر المشروع الأردني-الفلسطيني في مجلس الأمن، فإنه سينضم إلى جميع مؤسسات وهيئات الأمم المتحدة، وبالفعل نفذ وعده، فلم يعد الفلسطينيون يخشون على خسارة شيء، بل أن إسرائيل هي التي ستخشى بمعاقبتها على جرائم الحرب، خاصة العدوان الأخير على غزة، وعلى الانتهاكات والاستيطان والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ضد عسكريين وسياسيين إسرائيليين، للانتهاكات التي قاموا بها والتي تتعارض مع القانون الدولي، فالقيادة الفلسطينية قطعت إنجازاً وشوطاً دبلوماسياً هاماً، مما أثار حفيظة "نتنياهو"، الذي أخذ يهدد بمعاقبة الفلسطينيين من جهة، ومن جهة أخرى يطالب ويضغط على محكمة جرائم الحرب الدولية في "لاهاي" بعدم قبول شكاوى الفلسطينيين، تحت مزاعم أن فلسطين كيان وليس دولة، ولا يحق لها الانضمام إلى معاهدات الأمم المتحدة، كما زعم أن تحالف السلطة الفلسطينية مع حركة حماس، "الإرهابية"-حسب تعبيره- وحماس –حسب رأيه- ارتكبت جرائم حرب، يجب تقديمها مع فصائل فلسطينية أخرى إلى محكمة جرائم الحرب وليس إسرائيل، وأن على قادة السلطة الخوف من "لاهاي" أكثر من إسرائيل وهو يزعم بأن الجيش الإسرائيلي الأكثر طهارة وأخلاقية بين جيوش العالم، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخشى وحكومته من "لاهاي"، لكنه يعرف أنه وحكومته وجيشه ليسوا أبرياء.
من جانبها جاء رد محكمة "لاهاي" سريعاً، معتبره أن اعتراف الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بالدولة الفلسطينية بوصفها ليست عضواً عادياً، أزال على الصعيد العملي العائق الفني أمامها، ومنذ تلك اللحظة، بمقدور الفلسطينيين أن يصبحوا طرفاً في المحكمة، شريطة أن يقدموا طلباً للانضمام، ويوقعوا على ميثاق روما، وقد فعلوا ذلك "انتهى النص".
دول العالم لم تعد تتحمل الاحتلال الإسرائيلي، واستمرار الاستيطان، أما الولايات المتحدة التي تدعي أنها مع حل الدولتين، ظاهرياً، وضدها عملياً، والادعاء الإسرائيلي بأن اعتراف السويد وبريطانيا وفرنسا، وأسبانيا، والمجموعة الأوروبية بالدولة الفلسطينية، أنه لا يخدم عملية السلام من منظور إسرائيلي، فماذا على الفلسطينيين عمله أكثر مما عملوه لتحقيق السلام؟ هل عليهم الاستسلام لتقسيم الضفة الغربية في أحسن الأحوال؟ أم الانتظار إلى تحقيق الحلم الإسرائيلي من البحر إلى النهر؟ أم أنه كما جاء في جريدة "هآرتس 1/1/2015"، أن لدى الفلسطينيين فعلاً دولة خاصة بهم في الأردن؟
ماذا تريد أميركا؟ لقد فشل جميع مبعوثيها من "ميتشيل"وغيره، حتى وزير الخارجية "كيري"، في دفع إسرائيل لقبول الطروحات الأميركية للتسوية، وفشلت في وقف الاستيطان، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل والممارسات الإسرائيلية الأخرى، وأمريكا لم تؤيد في مجلس الأمن لا الاعتراف بعضوية كاملة، ولا عضوية مراقب للفلسطينيين في الأمم المتحدة، ولا تريد عملياً إنهاء الاحتلال، إنها تتبنى المواقف الإسرائيلية، وتقوم بالضغط على الفلسطينيين بدلاً من ضغطها على إسرائيل، حتى أن تبريرات المندوبة الأميركية في مجلس الأمن للموقف الأميركي كانت سخيفة جداً، فسياسة "نتنياهو" وحكومته خداع بخداع، حتى أن معهد بحوث الأمن القومي في جامعة تل-أبيب، توصل إلى استنتاج بأن "نتنياهو" لا يستحق أن يكون رئيساً ولا إستراتيجيته ثابتة ، لكن الموضوع لا يتعلق بالأشخاص، بل في البرامج والمشاريع السياسية، فمواصلة الاستيطان والتوسع، والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، وأن الحل والسلام ليس وارداً في برامجهم السياسية-الانتخابية، وأن التوجه الإسرائيلي عامة هو نحو اليمين والتطرف، فإذا كانت الانتخابات للكنيست التي ستجري في شهر آذار القادم هي حسب قولهم-مصيرية، وأنها أهم انتخابات تجري في إسرائيل، وهذا ما يزيد من تشاؤمنا، بأن الطريق للسلام مغلق، إذ أن عدداً كبيراً من الذين فازوا في الانتخابات الداخلية لحزب الليكود، لشملهم في قائمتهم الانتخابية للكنيست، من الذين تقدموا بمشاريع لضم الضفة الغربية بكاملها لإسرائيل، فماذا تنتظر من هذه الانتخابات سوى السراب؟
إسرائيل تتذرع بأن توجه الفلسطينيين لمجلس الأمن، ثم لعضوية مؤسسات الأمم المتحدة، هي إجراءات أحادية الجانب، بادعائها بأن معاهدة "أوسلو"، تنص على عدم قيام أحد الطرفين، بخطوات أحادية، والسؤال" ماذا أبقت إسرائيل من معاهدة "أوسلو"؟ إنها تقوم بكل شيء من استيطان وهدم المنازل والاستيلاء على الأرض والمياه وكل إجراءاتها في الأراضي الفلسطينية، أحادية الجانب، فقبل أن تتحدث وتتهم الفلسطينيين بالقيام بإجراءات أحادية الجانب عليها أن تحاسب نفسها، فهل أبقت مجالاً حقيقياً للمفاوضات، التي لن توصل الفلسطينيين لأي مكان، بل أغلقت كل السبل أمامهم، فقد كانت أمنية إسرائيل المعلنة، قبل وبعد حرب 1967، قبول العرب والفلسطينيين، بالجلوس معاً وإجراء مفاوضات سلام معها، وبعد أن تحقق لها ذلك، كشرت عن أنيابها، ورفعت من سقف مطالبها، دون اكتراث بالقانون الدولي، ولا بقرارات الشرعية الدولية، ولا بالاتفاقات الموقعة بين الجانبين لحل القضية الفلسطينية، وباعتقادي أن الخطوات الفلسطينية الأخيرة، بالاتجاه لمجلس الأمن، والانضمام إلى مؤسسات الأمم المتحدة، هي خطوات مباركة، مع أنها ستستغرق وقتاً لقطف ثمارها، كان التوجه لها بعد نضوج وتجاوب معظم الدول مع المواقف الفلسطينية، وبخاصة دول أوروبية، مما زاد من عزلة إسرائيل، فالتنكر الأميركي-الإسرائيلي، ليس باستطاعته إلغاء حقوق الشعب الفلسطيني، وأن التبجح الإسرائيلي بديمقراطيتها، وأنها دولة قانون، وجيشها أكثر جيوش العالم أخلاقية، بضاعة مكشوفة يرفضها المجتمع الدولي، ورغم أن هذا الانضمام قانوني، ومن حق الفلسطينيين الانضمام إلى هذه المواثيق، فإن غضب إسرائيل وواشنطن، والتهديد بالانتقام، وتجميد المساعدات، والالتزام بالقانون من أجل العدالة، فقد أحسن رئيس طاقم المفاوضات الفلسطينية د. صائب عريقات قوله: أن من يخشى محكمة "لاهاي" الدولية، عليه أن يكف عن جرائمه، فما المطلوب من الفلسطينيين عمله: لا للمقاومة المسلحة، ولا للمقاومة الشعبية، ولا حتى السماح بمظاهرات احتجاجية سلمية، ولا الانضمام لمحكمة "لاهاي" إذن ما العمل؟
مقال تحليلي
بقلم: غازي السعدي