ليس هناك من أحد بالغ عاقل ينكر أن الوضع في قطاع غزة صعب للغاية على مختلف الصعد، وأن الواقع القائم بمرارته لا يوجد في الأفق القريب ما يوحى بتغييره، حيث إن أطرافاً عدة تتحمل المسؤولية في ذلك، ومع ذلك تتهرب من مسؤولياتها وتمارس لعبة الضحية، والشيطان والملاك. فحركة حماس تحمل حركة فتح وأطراف أخرى المسؤولية وتعلب دور الحمل الوديع الذي ترك " الجمل بما حمل" للسلطة الفلسطينية وعليها تحمل مسؤولياتها، وهذا ما لمسناه جيدا في لقائنا يوم الثلاثاء 6/1/2015م مع مجموعة من الكتاب والمحليين السياسيين مع الدكتور موسى أو مرزوق في فندق الكوميدور بناء على دعوة العلاقات العامة في حركة المقاومة الإسلامية _حماس. ويبدو هنا أن الدكتور موسى ومن ورائه حركة حماس يحملون حركة فتح المسؤولية الكاملة عن واقع غزة المرير دون أن يدركوا أنهم قد حكموا غزة سبع سنوات تقريبا ولم يستطيعوا أن يحلوا مشاكلها بل تفاقمت المشاكل في عهدهم. فمشكلة الكهرباء وهي أبرز المشاكل الطافية على السطح قد تفاقمت في عهدهم بشكل دراماتيكي كبير، وكذلك مشكلة المعابر وغيرها. وقدمت حركة حماس نفسها على أنها ضحية الحصار والتأمر المحلي والإقليمي والدولي وكأن حركة حماس لا تدرك أن السياسة هي فن المؤامرة، وأنها أتت إلى حكم منطقة تقع تحت احتلال إسرائيلي بشكل أو بأخر. هل كانت حركة حماس تعتقد أن صندوق الاقتراع وحده هو الكفيل بحل مشاكلها وأنه العصا السحرية لحكم قطاع غزة. هل رأت حركة حماس أن واقع غزة إداريا واقتصاديا ومالياً مرتبط باتفاقيات أوسلو والقاهرة وباريس السياسية والاقتصادية، وأن سقف ممارسة السلطة في غزة مرهون بقيود هذه الاتفاقيات. لقد قفزت حركة حماس عن الواقع في الهواء عندما أعلنت قبيل دخول الانتخابات المحلية والتشريعية 2005-2006م أن اتفاق أوسلو قد مات. وهو ما أثبتت معطيات الواقع خلاف ذلك. وقد يجدر القول هنا إن حركة حماس أرادت أن تخلق مرحلة سياسية جديدة تتنصل فيها من قيود المرحلة السابقة، ولكن الأمنيات والرغبات شيء والواقع شيء أخر. وشتان بين القدرة وبين الرغبة. ولذلك وقعت حركة حماس أسيرة نشوتها في الفوز في الانتخابات في خطابها وأدائها السياسي. فقد جاءت تصريحات السيد خالد مشعل عقب الفوز لتأكد ذلك عندما قال "إن عربات القطار تتحرك ومن يريد اللحاق فليصعد إليها". حيث يبدو أن السيد خالد مشعل_ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس_ قد اعتقد أن فوز حركته في الانتخابات التشريعية يمنحه شرعية قيادة المشروع الوطني بكامله، وقيادة الشعب الفلسطيني بكامله داخليا وخارجيا. وقد أخطأ في ذلك بالاعتقاد كما أخطأ عندما نظر إلى الآخرين بأن يلحقوا بعربة القطار التي سيقودها. وتعامل مع الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح بعقلية التابع له وليس الشريك. ومن هنا جاءت المعضلة حيث لم يتم إدراك أن سلطة أوسلو وبالرغم من هزالتها إلا إنها تعد مشروع إنجاز لحركة فتح. وأن فتح لن تسلم بأن تتنازل عن مشروعها بمجرد إجراءات انتخابات تشريعية. فقفزت حركة حماس عن واقع أوسلو وواقع القائمين عليه. وكأنها ستتسلم غزة نظيفة من أوسلو ومن القائمين عليها. ولذلك انطلقت بمشروعها الفردي وكان ذلك خطيئتها. حيث تسلمت تركة ثقيلة هي تركة أوسلو المتشعبة والمقيدة. وكان أولى لها أن تشرك من هو قائم على أوسلو في تحمل وحل تركته. وحدث ما حدث من خلافات وصدامات. وعندما جاء تشكيل حكومة الوحدة الوطنية عقب اتفاق الطائف في فبراير 2007م كان تشكيل الحكومة تشكيل محاصصة وليس شراكة حقيقية. حيث حاول كل طرف أن يناور على الطرف الأخر ومن هنا وقع الصدام. فحركة حماس قد تسلمت منذ البداية أي منذ بداية تشكيل حكومتها الخاصة سنة 2006م وزارات مثقلة بمراكز قوى فتحاوية جعلت من الوزراء مجرد حالة ديكورية فقط، وهذا ما دفع وزير الداخلية السيد سعيد صيام أن يكون القوة التنفيذية بعد أن فشل في ممارسة سلطاته وصلاحياته على الأجهزة الأمنية التي تضم في غالبيتها عناصر حركة فتح. ومن هنا جاء الصدام الدموي في يونيو 2007م. وكان الخطأ أكبر عندما قادت حركة حماس قطاع غزة بمفردها، وبعقلية أمنية حادة. ووقعت بين فكي الصراع الداخلي الفلسطيني الفلسطيني، والسياسات والتجاذبات العربية والإقليمية المعقدة. وكانت تجربة حكمها صعبة للغاية على مختلف الصعد مما حدا بتفاقم مشكلات الحياة اليومية على المواطن الفلسطيني. وتعرض قطاع غزة لثلاث اعتداءات صهيونية ألحقت به تدميرا يفوق الوصف. وتمترست حركة حماس وراء تيار مقاوم بدون أفق سياسي. فيما تمترست حركة فتح وراء تيار مفاوض بدون إطار مقاوم. فحرم الشعب الفلسطيني من ثمار مفاوضات عقيمة بلا مقاومة تدعمها، ودفع الشعب الفلسطيني في غزة ثمناً باهظاً وراء مشروع مقاوم بلا أفق سياسي. وتم التعامل مع قطاع غزة كحالة إنسانية مجتزئة من الكل الفلسطيني في إطار مشروع وطني فلسطيني. ومن هنا ضاع المشروع الوطني الفلسطيني وراء أفق سياسي عقيم لأنه مغترب عن الواقع الفلسطيني القائم، ولا يستند على أرضية مقاومة صلبة، وبين مشروع مقاوم بدا وكأنه من أجل المقاومة فقط، ومن أجل الإبقاء على فصيل بعينه. فأصبحت المقاومة في قاموس حركة حماس ليس ضمن مشروع وطني بل من أجل البقاء على قيد الحياة كلاعب رئيس في الساحة الفلسطينية، ومن هنا لم يقطف الشعب الفلسطيني ثمارها بالرغم من أن زراعتها وأدائها كان رائعاً في الميدان، ولكن لم يتم ترجمته إلى إنجازات فبقي يدور في حالة وجدانية نشوانية شعبية فقط. وهذا لا يعود حتى لا يجانبنا الصواب إلى حالة ذاتية فقط بل إلى ظروف موضوعية أيضا. فكما رفضت حركة حماس أي إنجازات سياسية للطرف الأخر رفض الطرف الأخر إنجازاتها العسكرية وشكك فيها. ولذلك لم يستفد الشعب الفلسطيني بالمحصلة من أي إنجازات سياسية أو عسكرية. وبقيت الإنجازات أسيرة مناكفات سياسية داخلية.
وها هو المشهد يتكرر ثانية حيث وافقت الحركتين حماس وفتح على مصالحة تبدو حتى الآن متعثرة لأنها تقفز عن الواقع. فحركة فتح ترى في المصالحة استعادة قطاع غزة نظيفاً من حركة حماس، وحركة حماس ترى في المصالحة حالة انتشالية لها من واقع معيشي مالي واقتصادي مأزوم. ولذلك ينظر كل طرف للمصالحة من زاوية مصالحه الحزبية الضيقة وليس ضمن أفق الصالح العام أو ضرورة للمشروع الوطني الفلسطيني. فقد ملأت حركة حماس وزارات غزة بعناصرها، ومارست خلال السنوات السابقة أسوء أنواع الإقصاء الوظيفي وجعلته حكرا على عناصرها ضمن رؤى وتبريرات عدة أهمها حق عناصرها في تقلد الوظائف، وفكرة المحاصصة في كل شيء، وأنه أن الأوان لكي توظف أبنائها وتمنحهم استحقاقهم الوظيفي. ودفع المواطن العادي ثمناً باهظاً لذلك. ولذلك لم تتخلى حركة حماس عن تركة السنوات السابقة مثلما لم تتخلى فتح عن تركة السنوات قبل سنة 2006م. فوزراء حكومة التوافق الوطني وجدوا أنفسهم يتعاملون مع حكومة ظل في غزة، وأنهم ضيوف على وزاراتهم، وبدون صلاحية حقيقية. فهم مجبرون على التعامل مع وكلاء وزارات من حركة حماس، ومع هيكل وزاري ضمن سياسة الأمر الواقع. وتعلن حركة حماس أنها سلمت حكومة الوفاق الوزارات وعليها أن تقوم بدورها ومسؤولياتها. وهو كما قلنا حال وزراء حكومة حماس عندما تسلموا وزاراتهم سنة 2006م حيث تعاملوا مع هياكل وزارات كلها من حركة فتح.
ولذلك لا يزال قطاع غزة يدور في حلقة مفرغة لأن فكرة التربص والمناورة، والحفاظ على الإنجازات والمصالح الفئوية الحزبية هي التي تحكم الواقع السياسي الممارس، والذي يفرض حضوره بقوة على الواقع اليومي المعاش. فلا حركة فتح تقر بإفرازات سبع سنوات من الانقسام وما تبع ذلك من بنية مؤسساتية وهياكل وزارية ... الخ ولا حركة حماس أقرت سنة 2006م بواقع مشروع أوسلو وأن حركة فتح هي الأب السياسي لهذا المشروع. لذلك يتوجب الخروج من هذه الدائرة التي تدور في فضاء يتسم بالفئوية والمصالح الضيقة. وأن يتم بناء شراكة حقيقية تقوم على أساس أن المشروع الوطني بحاجة للجميع، وأن يكون هناك توافق على برنامج سياسي وطني. فالكل يدرك أننا ما زلنا تحت الاحتلال، وأن المشروع الوطني ما زال أمامه الكثير من المعوقات والتحديات لإنجازه ضمن ظروف موضوعية صعبة وغاية في التعقيد. وأن يدرك الطرفان حماس وفتح أنهما قد مارسا لعبة الإقصاء طيلة السنوات السابقة، فماذا كانت النتيجة. حالة من الانكفاء في الخطاب والأداء السياسي الفلسطيني، وحالة من الشراسة الاستيطانية والتهويدية للقدس والضفة الغربية، وحالة من التشرذم والضياع للشعب الفلسطيني. ولذلك لا يمكن لحركة حماس أن تتنصل من مسؤوليتها وتلعب دور الضحية ودور الملائكة بأنها سلمت الوزارات لحكومة الوفاق في الوقت التي تضع العصي في الدواليب. وتمارس خطاب المعارضة وكأنها ليست مسؤولة عن شيء في غزة في الوقت التي تمارس فيه دور حكومة الظل. فما يوجد في قطاع غزة من ملفات معقدة مثل الكهرباء والموظفين والمعابر والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وتنصل إسرائيل حتى من استحقاقات تفاهمات التهدئة في مرحلتها الأولى، فيما يبدو أنها تهرب من استحقاقات المرحلة الثانية التي تؤجل بذرائع الأمن المصري في سيناء. على حركتي فتح وحماس أن يتوقفا عن المناكفات السياسية، واللعب السياسي ضمن دائرة المناورة. وعليهما عدم القفز عن الواقع. فهناك استحقاقات للمصالحة يجب أن تدفعها حركة فتح، وهناك استحقاقات للمصالحة يجب أن تدفعها حركة حماس. أما تمترس كل طرف وراء خطابه ومصالحة الفصائلية، ومحاولة كل طرف الاستقواء بتحالفات عربية وإقليمية فذلك يعني بقاء الوضع القائم على حاله، ودفع المواطن الفلسطيني الثمن باهظاً بسبب أداء الطرفين الذي لم يعد يخفى أو يعجب أحد.