الحوار المتوسطي بوابةُ إسرائيل إلى العالم العربي

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

كأن الكيان الصهيوني ينقصه بواباتٌ جديدة ليدخل من خلالها إلى العالم العربي، وينتشر بواسطتها في نسيج الأمة العربية، ويتمدد في جنباتها، ويتغلغل في أعماقها، ويدخل إلى مجتمعاتها، ويختلط بشعوبها، ويتعايش مع أهلها، ويبدو وكأنه واحدٌ منهم، ولا يختلف عنهم، يشاطرهم همومهم وأحزانهم، ويشترك معهم في أفراحهم واحتفالاتهم، ويتبادل معهم التهاني والتعازي، ويقدم لهم النصح والمشورة، ويتلقى منهم الدعم والمساعدة، ويقبل منهم التمويل والشراكة، ويجلس معهم في قاعةٍ واحدة، وعلى طاولةٍ مشتركة، يتصافحون ويتصورون، ويتبادلون الهواتف والعناوين، ويبدون اعجابهم ببعضهم، ويعلقون على صفحاتهم، ويتحدثون بصراحةٍ ووضوح، وجرأةٍ وقوة، وكأنهم ليسوا أعداء، ولا توجد بينهم حالة حرب.

الكيان الصهيوني لم يترك وسيلةً للتسلل إلى الدول العربية إلا واستخدمها، وحاول الاستفادة منها، والقفز من خلالها، رغم المقاومة الشعبية العربية، والممانعة التي تبديها الجماهير، التي ترفض التعايش مع الإسرائيليين، ولا تقبل الاعتراف بهم، ولا تستسيغ النظر إليهم، ولا تتشرف بالحديث معهم، ولا تتصور أنها تجلس معهم وتحاورهم، إذ لا تجيز لنفسها التعامل معهم، وتحارب كل وسائل التطبيع مع كيانهم، وتعتقد بأن إسرائيل التي تتطلع للتعايش مع العرب والتطبيع معهم، كاذبةٌ وخادعة، وخبيثةٌ وماكرة، إنما تريد أن تعيث في مجتمعاتهم فساداً، وأن تثير بينهم الشحناء والبغضاء، وأن تشتت جمعهم وتفرق صفهم، وأن تبث بينهم سموهما، وتنفخ في نار الفتنة والضغينة بينهم، لتطمئن فيما احتلت، وتأمن فيما اغتصبت، وتشعر بالثقة لوجودها وبقائها في المستقبل، ولا تكون مقاومة تهددها، ولا نفور ينغصها، ولا حالة عداء تربكها.

الدول الأوروبية التي تتحالف مع إسرائيل وتخاف عليها، وتدعمها وتدافع عنها، وهي التي ساندتها قديماً وناصرتها في سنوات تأسيسها الأولى، وغيرها التي تشعر تجاهها بعقدة الذنب، بسبب ما تعرض له اليهود في بلادها على أيدي النازية إبان الحرب العالمية الثانية، قد أخذوا على عاتقهم مساعدة الكيان الصهيوني في أن يكون منسجماً مع الجوار، وطبيعياً في المنطقة، تربطه علاقاتٌ طيبة بالدول الجارة، واتفاقياتٌ محترمة مع الدول المحيطة، يشترك معها في الحدود، ويتعاون معها في الأسواق والشركات، ويتقاسم معها الأنهار والمياه، ويتكامل وإياها في الطاقة والكهرباء، وينسق معها في الجرائم والمشاكل والأوبئة والأمراض.

لهذا كان الحوار الأورو متوسطي، الذي يجمع دول أوروبا التي تشكل الحلف الأطلسي مع العديد من الدول العربية إلى جانب إسرائيل، على أساس أنها دولة شرق أوسطية، وتطل على البحر الأبيض المتوسط، الذي تشترك فيه مع العرب وأوروبا، ولها فيه معهم منافع ومصالح مشتركة، ومساراتٌ وممراتٌ دولية، توجب عليهم التنسيق، وتلزمهم بالحوار والتفاوض بغية التوصل إلى تفاهماتٍ مشتركة، تحقق مصالح الجميع، وتضمن عدم التناقض والاصطدام.

بدأ الحوار المتوسطي قبل عشرين عاماً، بدعوةٍ ورعايةٍ من الحلف الأطلسي، والتحقت فيه إلى جانب إسرائيل ستة دولٍ عربية، هي مصر والأردن، والمغرب والجزائر، وتونس موريتانيا، ولكن اجتماعاته توسعت، وازداد أعضاؤه، والتحقت به دولٌ عربية غير متوسطية، تصنف بأنها معنية باللقاء مع الكيان الصهيوني والتحاور معه، وإن بدا للبعض أن الحوار لا يدين، إذ أنه غير مباشر، وأن اللقاء في قاعةٍ واحدة، يشبه لقاء مندوبي الدول في قاعات الأمم المتحدة، التي يكون فيها المندوب الإسرائيلي إلى جانب غيره من المندوبين العرب.

اليوم وبعد عشرين عاماً من تأسيس هذا الملتقى، أخذت الحكومة الإسرائيلية تفرض رؤيتها الخاصة، وتعرض برامجها التي تنسجم مع مصالحها وتحقق أهدافها، وتعرضها على أنها برامج مشتركة، ورؤى موحدة، وتطلب من جميع الأعضاء، الأوروبيين والعرب، التعاون معها في توحيد الرؤية تجاه الإرهاب الذي تراه إسرائيل في المقاومة التي تهدد وجودها، وفي الحراك الشعبي الذي تواجهه بعض الدول العربية الأعضاء، وفي المجموعات العسكرية التي تنشط فيها، وتقوم بعملياتٍ ضد أنظمتها.

ولهذا فهي تريد أن تتفق مع أعضاء الملتقى، على أن كل من يهدد أمن أيٍ منها إنما يهدد أمن المنطقة بأسرها، ويستهدف استقرار جميع الدول الأعضاء، وأن الإرهاب يستهدفهم جميعاً، وبهذا يساوي الكيان الصهيوني بين المقاومة والعمليات الإرهابية، ويصنف المقاومين أصحاب الحق المشروع أنهم إرهابيين.

للأسف أخذت الدول العربية الأعضاء في هذا الملتقى تنسجم مع الرؤية الإسرائيلية وتتبناها، وتؤمن بها وتدافع عنها، في الوقت الذي ترفضها الدول الأوروبية، وتعارض التفسير الإسرائيلي لها، وتصر على التمييز بين أعمال المقاومة والعمليات الإرهابية، وترفض وسم بعد التنظيمات الفلسطينية أو العربية بالإرهاب، كونها تقاتل إسرائيل، سعياً لتحقيق حقوقها، واستعادة أرضها، ونيل استقلالها، أو تحرير أسراها، والدفاع عن حياة مواطنيها في وجه العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في مناطقهم.

يثير الكيان الصهيوني من خلال مشاركته الأخيرة في الملتقى، أن التحديات التي تشهدها المنطقة تحدياتٌ مشتركة، وهي تستهدف الأمن والاستقرار العام، الأمر الذي يفرض ضرورة التنسيق المحكم، والعمل المنظم المشترك، ووجوب تبادل المعلومات، وتنسيق الجهود، لتجنب الأخطار والكوارث، وتحقيق أفضل النتائج، لذا فمن الممكن القيام بعملياتٍ مشتركة، أو تنفيذ مهام متبادلة، وفيها يعرض الكيان الصهيوني تقديم المساعدة والعون، ووضع كل الإمكانات والخبرات التي لديه بين يدي الدول العربية الأعضاء، خاصة تلك التي تواجه أخطار الإرهاب المنظم، وتعاني من نتائج ما تسميه ب"الإرهاب".

يبدو ممثلو الكيان الصهيوني في الملتقى حكماء وعقلاء، وناصحين ومخلصين، وباتوا يجدون مع نظرائهم العرب لغةً مشتركة، ومصالح واحدة، إلى الدرجة التي قد يستغنون فيها عن الوسيط، الذي أنشا إطاراً لجمعهم، والتوسط بينهم، ويريد الكيان من الدول العربية أن تسلم له بالقوة، وأن تقبل منه أن يكون متفرداً دون غيره بالسلاح النووي الرادع، لأنه سيكون حمايةً لهم، وضامناً لوجودهم، وغير طامعٍ بهم، وفي ظله سيكون الأمن والسلام، والطمأنينة والاستقرار، وهي التي ستضمن أمن حدودهم، وسلامة بلادهم، وستصد عنهم كل تغولٍ تركيٍ قادم، أو فارسي يتربص.