في ظل المهاترات حول عمل الحكومة الفلسطينية وخصوصا بعد بيان الحكومة المثير للجدل من حيث مضمونه وجهة إصداره ، يوم الاربعاء السابع من الشهر الجاري ، الذي تضمن تصورا لتسوية مشكلة الرواتب وقضايا ذات صلة بتمكين الحكومة ، أجد نفسي في موقف الدفاع عن الحكومة الفلسطينية ، حيث يبدو أن الأطراف الفلسطينية المتخاصمة وغير المتوافقة وجدت في الحكومة الفلسطينية التي سموها زورا بحكومة التوافق الوطني حيطة واطية أو شماعة يعلقوا عليها ويحملوها فشلهم وعجزهم وعدم اتفاقهم على أي من ملفات المصالحة ، ومعرفتهم المسبقة أنه ليس بالحكومة ينتهي الانقسام . فكيف يمكن لحكومة توافق وطني أن تعمل في ظل غياب التوافق الوطني ؟ .
لقد تشكلت الحكومة من وزراء تكنوقراط وكان هذا باتفاق حركتي فتح وحماس ، وكان مبرر التكنوقراط أن الحركتين أنجزتا المصالحة وتوافقتا على كل القضايا الخلافية ، ومهمة حكومة التكنوقراط تنفيذ ما تم التوافق عليه ، وهذا أمر يمكن فهمه والقبول به ما دام الاتفاق حصل كما يقولون على كل المشاكل بعد مخاض سنوات من الانقسام وسنوات من الحوارات التي أنهت الانقسام كما قالت قيادة الطرفين ! حيث الرئيس الفلسطيني أبو مازن أعلن مباشرة عقب تشكيل حكومة الوفاق الوطني في الفاتح من يونيو الماضي : " لقد تم استعادة وحدة الوطن وإنهاء الانقسام الذي ألحق بالقضية الوطنية أضراراً كارثية طوال السنوات السبع الماضية، وذلك بتشكيل حكومة التوافق الوطني" ، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل أعلن من محل إقامته في قطر : (عن انتهاء حقبة زمنية أليمة وطي صفحة الانقسام التي مرت علي الشعب الفلسطيني رغم التحديات والتخريب الإسرائيلي والفيتو الامريكي ) ، وغيرهم أعلنوا مباشرة بعد تشكيل الحكومة الفلسطينية الذي أعقب لقاء مخيم الشاطئ أن تشكيل الحكومة قد طوى مرحلة الانقسام المقيت وأن المصالحة باتت حقيقة واقعة !.
كتبنا حينها مقالا بعنوان (تشكيل حكومة توافق وطني لا يعني نهاية الانقسام ) من منطلق أن تشكيل الحكومة مجرد جزئية في ملف المصالحة ، بل الحلقة الأسهل . وتأتي الأيام لتؤكد ما ذهبنا إليه حيث بات من الواضح أنه لم يتم الاتفاق على أي ملف من ملفات المصالحة سواء الملف الأمني أو ملف الموظفين أو ملف الإعمار أو ملف الانتخابات أو المصالحة الاجتماعية ، وإن حدث اتفاق فعلى الورق فقط دون نية أو إرادة حقيقية في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه ، سواء كان بسبب مصالح تراكمت خلال سنوات الانقسام ، أو نتيجة الفيتو الإسرائيلي على توحيد شطري الدولة الموعودة في الوقت الذي تحارب إسرائيل وواشنطن بضراوة تمرير قرار في مجلس الأمن يضع حدا للاحتلال ولو من خلال مفاوضات .
كان من الممكن تحميل الحكومة المسؤولية عن الفشل وتعثر كل شيء ، بدءا من ملف الإعمار إلى ملف الموظفين والأمن ... لو أن حركتي فتح وحماس متفقتان على هذه الملفات وعلى آلية حلها ، حينئذ يمكن القول بأن الخلل يكمن في الحكومة كسلطة تنفيذية غير قادرة على تنفيذ ما هو متفق عليه ، ولكن الواقع أنه لا يوجد اتفاق نهائي وواضح على أي من الملفات السابقة ، أو يوجد اتفاق ورقي دون إرادة التنفيذ ، فكيف يمكن تحميل المسؤولية لحكومة تنفيذية تكنوقراطية ؟. بدون توافق بين الطرفين الرئيسين ،الطرف الذي بيده المال أو يأتي المال عن طريقه ، والطرف الذي يصادر ويسيطر أمنيا على القطاع ، لا تستطيع الحكومة الإقلاع . بدون هذا التوافق فإن الحكومة ستبقى شاهد زور وستتحمل أوزار الانقسام وتعزيزه والحالة المتردية وخصوصا في قطاع غزة ، وهذا لا يمنع من أن تعمل الحكومة وتجتهد في قضايا معيشية للناس في الشؤون الصحية والاجتماعية بما هو متاح لها من هامش .
لو كانت حركة حماس جادة في تمكين الحكومة من العمل و تفكيك الملفات المستعصية ، فإن البيان الحكومي محل الخلاف ، تضمن حلا وسطا وكان من المفترض بدلا من رفضه بالمطلق أن يتم وضعه موضع النقاش مع إمكانية الحوار لتعديل بعض جزئياته . فكما أنه لا يجوز أن يستمر الموظفون الحاليون الذين وظفتهم حماس بعد الانقلاب بدون رواتب وخصوصا أنهم من يدير شؤون القطاع ويحفظ الأمن فيه ، حتى وإن كانوا موظفي حكومة الأمر الواقع الحمساوية، أيضا لا يجوز أن يتلقى هؤلاء رواتب بينما موظفو السلطة الشرعية يتقاضون رواتبهم وهم في بيوتهم . مقترح بيان الحكومة حاول إيجاد حل عقلاني تكنوقراطي بعيدا عن عقلية الانقسام والخلافات الحزبية ، يقضي بعودة من تبقى من الموظفين السابقين ، وعدد هؤلاء لا يتجاوز نصف عددهم الاصلي لأن كثيرين منهم غادر القطاع أو حصل على تقاعد مبكر أو لا يرغب بالعودة للعمل ، وفي نفس الوقت استيعاب متدرج لموظفي حكومة حماس، مع حلول أخرى لمن لن يتمكن من الاستمرار بوظيفته بحيث لن يتبقى أحد بدون وظيفة أو تعويض.
ندرك أن الأمور ليست بهذه البساطة سواء من حيث صدق النوايا أو التطبيق العملي. حيث تُطرح تساؤلات حول قدرة الحكومة ومؤسساتها على استيعاب كل هؤلاء الموظفين ، وحول شرط تمكين الحكومة من العمل واستلام كل المؤسسات والمعابر في القطاع ،وهل أن الرواتب هي المشكلة أم مجرد ذريعة لإفشال المصالحة ، ومصيبة ان يتم إفشال المصالحة بسبب الرواتب . أيضا لسان حال حركة حماس يقول : كيف نسلم قطاع غزة لحكومة سلطة وطنية باتت بدون سلطة كما يكرر رئيسها أبو مازن وكبير المفاوضين صائب عريقات ؟ وكيف نسلم قطاع غزة لسلطة مهددة بأي وقت بالزوال والانهيار في الضفة الغربية ؟ . ومع ذلك فحركة حماس تتحمل مسؤولية كبيرة عن المشكلة لأنها كانت تدرك هذه الأمور عندما وقعت على اتفاق المصالحة وعندما قبلت المشاركة في حكومة الوفاق الوطني .
واخيرا نقول إن دولة غزة التي تحقق مصلحة إسرائيلية بامتياز باتت على الأبواب وستأتي تتويجا لفتنة وحرب أهلية في القطاع ، وتزامن عملية إفشال الحكومة مع التحديات التي تواجه الحراك الدبلوماسي حول الدولة أمر يُنذر بعواقب وخيمة ليس على قطاع غزة فقط بل على مستقبل القضية والمشروع الوطني ، وهذا لا تتحمل مسؤوليته الحكومة الحالية بل الحزبان الكبيران وبقية الاحزاب حتى غير المشاركة في الحكومة ، الأمر الذي يتطلب من الرئيس أبو مازن رئيس الشعب الفلسطيني ورئيس السلطة والمنظمة والدولة ، والسيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الحاكمة والمسيطرة حتى الآن على قطاع غزة وذات التأثير والحضور الشعبي في الضفة الغربية ، تدارك الأمر بسرعة قبل انفجار الوضع ، ولو في حدود تمكين الحكومة من إعمار قطاع غزة بما يخفف من تداعيات المنخفض الجوي !.