يبدو ان معالم الانتصار تلوح في الأفق بشائرها ومعالم الاستقرار تبعثرت بين عواقب الزمن قوافيها وتسير بنا الامور على مشارف طرق مختلفة مسالكها وعرة وعورة جبال الألب تعرجاتها .. تنساب شرايين الحياة متثافلة على الارض سواقيها نستبشر خيرا سير الامور وكما هي العادة الدفينة في اعماق الكثير من ابناء البشر المتساهلين المتشبّثين عنوة بالتفاؤل كما أنا والكثير مثلي ومن أبناء جيلي ولكنني لابد ان أترك مكان بين التفاءل المشوب بالحذر .....
كثير ما تعود بنا الأحداث الى تواريخ عشت وعاشالأمة الكثير من احداثها السابقة .. تواريخ ظاهرها جميل وفأل خير وباطنها أو نتاجها قطران اكثر سواداً من القطران , هلاك اكثر من الهلاك , تجارب ديمقراطية عشتها بحذافيرها في بلدين شقيقين أعزهما وأكنّ لهما الإحترام الخاص , بلدين عاشا معاناة الديمقراطية الفوضوية أو بالاحرى الديمقراطية على الطريقة العربية الوجّهة غربيّاً , ديمقراطية الفوضى أو ديمقراطية الاستغلال أو ديمقراطية النهب والانحلال أو ديمقراطية التزمّت والغلو في التطرف , ديني كان ام اقتصادي ....
عادت بي الذاكرة جبراً الى أواسط الثمانينات في السودان حين انتفض الشعب السوداني انتفاضته الجماهيرية الشهيرة على الرئيس جعفر النميري , ثورة تمثلت فيها كافة اطياف المجتمع المدني وكان للجيش الدور الأكبر والرمزية الحقيقية في انجاح تلك الثورة التي لم يكتب عنها الكثير وربما لم يعرفها الكثير والتي كانت في حقيقتها وتفاصيلها مماثلة للطريقة التي حدثت وما زالت تحدث في دولنا العربية هذه الايام وكما هي العادة كان للجيش الدور الريادي بالوقوف الى جانب الجماهير الغاضبة وكان له الفضل في صناعة الحدث ونجحت الثورة التي سمّيت في تلك الفترة بالانقلاب العسكري رغم انها كانت ثورة جماهيرية حقيقية وكان لضباط الجيش السوداني الريادة في انجاحها .......
بعد نجاح تلك الثورة وسقوط النميري كان الخيار الشعبي الأول والأوحد وبالتوافق مع البعض من الضباط الاحرار في الجيش السوداني هو تشكيل مجلس عسكري إنتقالي لمرحلة مؤقتة لا تتجاوز صلاحياتها العام .. وفعلا تم تشكيل المجلس العسكري الانتقالي الأعلى بقيادة المشير سوار الذهب الذي اخذ على عاتقه تسيير امور الدولة لمدة تلك السنة والذي يتم خلالها تأطير الوضع الحزبي والدخول في ديمقراطية حقيقية وانتخابات شفافة وتسليم السلطة لممثلي الشعب المنتخبين وإتاحة الفرصة الأولى للخوض في تجربة الديمقراطية الوليدة بطريقة شفافة وسليمة , تفاءل الجميع خيرا رغم تخوف الكثير من ابناء السودان ان يتمسّك سوار الذهب ومن معه بالحكم .. ولكن كان الرجل صادقا في وعوده وكان حريصا على حماية تلك الديمقراطية الوليدة وفعلا وبعد عام بالتمام والكمال قام طوعاً بتسليم السلطة لممثلي الشعب المنتخبين وكان هذا الامر يحسب للمشير سوار الذهب ورفاقه حول كيفية تسليمه السلطة بكل تجرد واختفى عن الساحة السياسية طواعية وحبّاً للوطن ....
حقيقة كانت ديمقراطية وليدة وانتخابات شفافة رغم شعور الخوف الكامن في اعماق ابناء السودان حول نتاج مابعد تلك الديمفراطية وطبيعة الاخوة السودانيين الاسلامية التي لاتؤمن بديمقراطية الغرب واساليبها وتدخّلات العالم في شؤون هذا البلد الطيب ولا اخفي عليكم ان الكثير ممن انتخبوا تشريعيا في مجلس الامة آن ذاك كانوا رجال اعمال وتجار سوق تحولت من خلالهم ملامح الديمقراطية الى سوق نخاسة وتاهت معالمها وتناحر الاطراف من جديد وضاعت السودان في تناحرات جديدة واساليب مستجدّة , سياسية كانت او اقتصادية وبدأت معالم الاستقرار تنحدر الى هاوية الضياع من جديد وعاد الحنين الى الماضي ولم تدم تلك المرحلة الديمقراطية سوى ثلاثة سنوات فقط لتعود اليها من جديد معالم الحكم الواحد الأوحد بقيادة البشير وسميت آن ذاك بثورة الإنقاذ الوطني والتي تستمر الى يومنا هذا بشائرها وتفرعت خريطة السودوان وتقسّمت معالمها وأصبحت الدولة دولتان والخير في الطريق .. ..
ومن خلال تلك التجربة واحداثها بالمقارنة في ما حدث في مصر وتونس نجد ان وجه الشبه كبير من خلال توالي مراحل الثورتين وساعود اليها بعد توضيح التجربة الجزائرية والتي كانت الأكثر إيلاماً والأكثر تضحيات وضحايا ... ماذكرت سابقاً كان ملخص ما عايشت بداياته في السودان لانتقل بكم فيما بعد الى الجزائر بالتوالي وهنا لا اريد الدخول المعمق في السياسة الجزائرية لان المجال لايسمح في مقالة واحدة فالجزائر تحتاج منا الكثير الكثير فهي درة المغرب العربي وعنوان ثورتها ولكن فقط اريد ان اخوض في معالم التجربة الديمقراطية الجزائرية وما آلت اليه نتائجها .. ننطلق اليوم منذ بداية استلام الرئيس الشادلي بن جديد الحكم وكيفية التحول المتسارع تجاه الغرب واختراق العديد من الخطوط الحمراء التي كانت في عهد بو مدين واحمد بن بله خطوط حمراء تتالت من خلاله المتغيرات لتظهر في الأفق مظاهر الانفتاح السياسي والاجتماعي المستوردة من الغرب لتبدأ معالم بشائر الغرب الديمقراطية تنتشر في الساحة الجزائرية ونظراً للصلاحيات المتعددة لدى الرئيس من وزارة الدفاع الى أمانة حزب جبهة التحرير الوطني إضافة الى الرئاسة تلك المناصب التي كان يتمتع بها الشاذلي بن جديد جعلته امام طريق معبّد وطويل تتجه بوصلته الى ديمقراطية وليدة رغم معرفته الاكيدة ويقينه الداخلي انه لايملك السطوة الحقيقية ولم يمتلك يوماً مفاتيح الحل والربط في البلاد فاصحاب الحل والربط تختفي ملامحهم خلف الاضواء كونهم مانوا يعلمون جيّداً ان قوّتهم تكمن في الاختفاء تحت الارض .....
وبناء على ماتقدم كان القرار المتفق عليه بين السلطتين تغيير مسار اسلوب الحكم وصناعة متغير جديد باسلوب جديد يختلف تماماً عن السياسة الجزائرية في عهد الراحل بومدين ونتيجة لضعف الشداذلي بن جديد امام مراكز القوة المتخفيّة داخل المؤسسة العسكرية قرر الشاذلي بن جديد أن يخوض معركة الانفتاح على الغرب والطريق الوحيد هو اعادة ترتيب البيت الجزائري حسب المنظومة الغربية وديمقراطيتها المفتعلة .. من خلال ماتقدم قرأت الاحزاب معالم هذا الانفتاح جيداً والتقطت علامة الضوء الأخضر الكامن خلف بوابة الانفتاح الجديد وبدأت الاحزاب بالتشكل كل حسب مبادئها وكل حسب ايديولوجيتها الدينية والسياسية وبرزت في الافق ملامح جبهة عريضة بدأت على الارض ملامح انتشارها وكانت عام 1990 اول انتخابات بادية حقيقية وشفّافة فازت خلالها الجبهة الاسلامية للانقاذ باغلب مقاعدها الامر الذي ادى الى ميلاد جبهة كانت الرقم الصعب في المعادلة الجزائرية الجديدة ......
بعد جولة الانتخابات البلدية والنجاح المنقطع النظير للجبهة الاسلامية المسماة جزائريا بالفيس طالبت تلك الجبهة وبقوة وإلحاح باجراء انتخابات تشريعية لاكمال مراحل التعددية السياسية وكان لها ذلك ايضا وتم تحديد 27 جوان عام 1991 يوماً موعودا ولكن تلك الامور لم ترق لاصحاب السلطة الاولى فكانت النتيجة النهائية والدراماتيكية , حل الحكومة وحل البرلمان وأقالة الرئيس جملة واحدة وبدون مقدمات وكان فعلا القرار الصائب رغم ما تلاه من حروب ومجازر بعد أن تم اعتقال اغلب قادة جبهة الانقاذ ليدخل الجزائر في دوّامة حرب اهلية كادت أن تأكل الأخضر واليابس والجميع يعلم نتاجها التي استمرّت اكثر من عشرة سنوات على تلت تلك الحادثة ودفع خلالها الشعب الجزاءر خيرة أبناء شعبه .....
تلك كانت بعض نماذج من الديمقراطيات العربية المستوردة والموجّهة باطنيّاً من الغرب صاحب المبادئ الغريبة وهنا اعود في نهاية حديثي هذا الى تونس الحبيبة وما واكبت الثورة من مراحل انتقالية كادت أن تنزلق خلالها الى مصافي التناحر لولا وعي القادة التونسية وقراءة الواقع بدقّة وإمعان ومسؤولية رغم التجاذبات السياسية الراقية والاختلافات في الرؤى ......
ولكن بحكمة قادتها السياسية والعسكرية وصلت تونس الى بر الامان نوعا ما وكانت الانتخابات بداية ديمقراطية حقيقية ولكن استمراريتها هي الاصل وهي الحقيقة الغامضة التي يجب ان تبقى راسخة في عقول التونسيين ووجدانهم لأن البديل في ابيامنا هذه مخيف ومريع وخير مثال على ذلك ما يحدث في ليبيا وسوريا والعراق .. لذا وجب على تونس والتونسيين الاستمرارية بتلك الديمقراطية على الطريقة التونسية وعدم النظر الى ديمقراطيّات مستوردة ومشبوهة أهدافها والتحلّي بعقلية التسامح والمنافسة الشريفة هذا ان ارادوا ان تبقى تونس علَماً واضحا ومميزاً في معالم الديمقراطيات العربية الحديثة ومفتاح التطور والرقي والأمان ......
بقلم: عطية ابوسعده / ابوحمدي