إن حياة الشاعر بسيسو حافلة بالآثار والمآثر الجليلة، منذ ولادته في غزة الخالدة، حتى وفاته في لندن عام 1984، وتشكل أهم وأخطر فترة في تاريخ شعبنا، لذا فهي جديرة بالبحث والتنقيب، وفي هذا المجال يحضرني قول الشاعر:
ليس على الله بمستنكرٍ
أن يجمع العالم في واحد
ففي هذا العلم الفلسطيني الشامخ، اجتمع من الخصال والصفات ما تنوء الجماعات بحمله، فهو أول سجين من سجناء الحرية، وهو السياسي صاحب المبادئ، لا التاجر المحترف، وهو الثائر على التزمت الديني أينما كان مصدره، وهو المربي الذي لا يُشَقّ له غبار.. إنه رجل ثورة متعددة المبادئ، متنوعة الجوانب، ميزتها اقتران الرأي بالممارسة، والقول بالعمل، والمبدأ بالتجسيد. ثورة في السياسة على الظلم، ثورة على الوجاهات التقليدية التي طبلت لليهود؛ وتغنت بنعمهم، وتاجرت بالوطنية نهاراً، وسمسرت بصفقات بيع الأراضي لليهود ليلاً، وأغاظها الزخم الجماهيري الملتهب، فعملت على إطفاء جذوته. ثورة على المثالب والمفاسد، ثورة على الضعف، ثورة على تسلُّط الغني على الفقير، والقوي على الضعيف، والرجل على المرأة، والحاكم على المحكوم.
اتخذ من شعره سلاحاً يعري به هامة الظلم، ومصباحاً يضئ للمناضل العربي دروب الكفاح المسلح، فهو أحد أركان شعر النكبة الذي صور الويلات والمصائب التي صبّها الاستعمار على مدينته الخالدة "غزة هاشم"، ومن قوله في (المدينة المحاصرة)، والرابضة على شاطئ الأبيض المتوسط:
البحـرُ يَحكي للنجومِ حكايةَ الوطنِ السجينْ
واللّيـلُ كالشحـاذ يَطرقُ بالدموعِ وبالأنينْ
أبوابَ غزةَ وهي مغلقةٌ على الشّعبِ الحزينْ
فيحركُ الأحياءَ ناموا فوقَ أنقـاضِ السنينْ
وكأنهم قبـرٌ تـدقُّ عليه أيـدي النـابشينْ
أما اليوم أقول لك: أيها الشاعر الملهم، وبعد نصف قرن أن غزة على حالها مازالت تعاني غدر الأعداء وعجز الأصدقاء، ويحدق بها ظروف قاسية، وحصار جائر أكل الأخضر واليابس على مرأى ومسمع من العالم دون أن يكترث أحد بنا للأسف وكأن التاريخ يعيد نفسه..
ويعاني الذي أعاني وهل
يفرح نسر وفي السلاسل نسر
ولد الشاعر معين بسيسو في مدينة غزة عام 1927، درس علومه الإبتدائية في مدرسة الشجاعية (حطين حالياً)، وأنهى دراسته الثانوية عام 1948 من كلية غزة التي أنشأها الأستاذان (شفيق ووديع ترزي)، ثم شدَّ الرحال إلى القاهرة، والتحق بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وحصل منها على ليسانس الآداب عام 1952، واندمج أثناء دراسته مع الحركة الوطنية المصرية، وشارك في الحركة الأدبية والفكرية، ونُشر له العديد من المقالات في المجلات والصحف المصرية، وكانت له علاقة حميمة مع الأدباء والكتّاب أمثال: (صلاح جاهين، عبد المنعم القصاص، يوسف إدريس، كامل الشناوي، لويس عوض.. وغيرهم). صدر ديوانه الأول (المعركة) مع حريق القاهرة في 26 يناير 1952 حيث يقول في دفاتر فلسطينية، عن ديوان المعركة: (إن عمال أورفند هم الذين هربوا ديوانه لكي لا يحترق؛ وسأظل مديناً لعمال المطابع في مصر للأبد). في صيف عام 1953 عاد إلى غزة، حيث عمل مدرساً لمادة اللغة الإنجليزية، بمدرسة الشجاعية، وفي نهاية العام الدراسي غادر غزة إلى العراق حيث عمل مدرساً للغة الإنجليزية في مدرسة الشامية الثانوية للبنين والبنات في قرية الشامية أيام حكم (نوري السعيد)، وأُجبر على الرحيل من العراق مطروداً مع صديقه (كمال يعقوب الطويل)، حيث استطاعا أن يهربا ماكنة (الرونيو) للطباعة وفي نهاية عام 1953، عاد إلى غزة، وعمل مدرساً في مدرسة البريج الإعدادية للاجئين في مخيم البريج عام 1954، ثم ناظراً لمدرسة جباليا الإعدادية في وكالة الغوث للاجئين.
في عام 1954 بدأ ينشط لتشكيل حزب شيوعي رائد، وتأسيس أول نقابة للمعلمين الفلسطينيين لمدارس اللاجئين في قطاع غزة مع نخبة من أبناء شعبنا أمثال: صلاح خلف، فتحي البلعاوي، سمير البرقوني، زهير الريس، محمد زكي آل رضوان... وغيرهم. وقاد مع إخوانه انتفاضة 2،1 مارس 1955 ضد مشاريع التوطين والإسكان في صحراء سيناء المصرية، والهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، وارتفع صوت المظاهرات (لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان). وإليهم يرجع الفضل في إسقاط تلك المشاريع، وعلى إثر ذلك تعرض للطرد من عمله في المدرسة والاعتقال خلال الأعوام (1955-1959)، وعاش تجربة طويلة في السجون والمعتقلات المصرية، وبعد أن أمضى فيها ثلاث سنوات عاد إلى غزة مع رفاقه، وتابعوا مسيرة الحياة والنضال، واعتقل أيضاً خلال الأعوام (1959-1963) بتهمة الشيوعية في السجن الحربي، ثم في الواحات الخارجة بمصر؛ وبعد أن أُفرج عنه تزوج من السيدة صهباء سعيد البربري في عام 1963. بين الأعوام (1966-1969) عاش متنقلاً بين بيروت ودمشق والاتحاد السوفيتي والقاهرة. وفي عام 1967 عمل في صحيفة الثورة تحت عنوان: (من شوارع العالم) في دمشق مدة عام، وخلال الأعوام (1969-1972) عمل مسؤولاً عن الصفحة الأدبية لجريدة الأهرام المصرية، وكتب مقالات عديدة في: مجلة الديار اللبنانية، مجلة الأسبوع العربي، مجلة الميدان الليبية، وخلال الأعوام (1972-1982) استقر مع عائلته في بيروت، وعمل في صحافتها، وكان أبرز شعراء المقاومة الفلسطينية العاملين في إطارها، وفي عام 1980 حصل على جائزة (لوتس) تقديراً لدور شعره النضالي. وفي عام 1982 عمل في صحيفة (فلسطين الثورة) ككاتب مقال اسبوعي تحت عنوان (نحن من عالم واحد) حتى وفاته، ومن أهم المؤسسين لجريدة المعركة أثناء حصار بيروت عام 1982، ومن أهم ما صدر في تلك الحرب القصيدة المشتركة له ولزميله الشاعر محمود درويش تحت عنوان (رسالة إلى جندي إسرائيلي) حيث كُتبت على ضوء الشموع، ومن أهم قصائده (أنت آتيك الحجر) وتنبأ من خلالها بانتفاضة الحجر، وكتبها قبل أيام من رحيله وقبل الانتفاضة المباركة بخمس سنوات. عين مستشاراً ثقافياً للرئيس ياسر عرفات، وانتخب عضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين في أول مؤتمر للاتحاد الذي عقد في جامعة بيروت العربية في قاعة جمال عبد الناصر، وانتخب أيضاً عضواً في الأمانة العامة لكتّاب آسيا وأفريقيا، وترأس (مجلة اللوتس) الصادرة عن الاتحاد والناطقة باللغة العربية، وبقي رئيساً لها حتى رحيله عن العالم، وكان عضواً بارزاً في المجلس الوطني الفلسطيني، كما شارك في العديد من المؤتمرات واللقاءات العالمية حاملاً قضية شعبه ووطنه فوق كتفيه وفي قلبه كجمرة من النار.
ترجمت أشعاره إلى لغات حية أبرزها: الروسية، الألمانية، الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية.. كان الشاعر السوفياتي (بفتوشنكو) أول من قدمه إلى القارئ السوفياتي عبر ترجمته لقصيدة (الطبل) إلى الروسية في عام 1968، ويذكر أن الشاعرين السوفيتين: (اناتولي سوفرونوف، وميخائيل كورغاتسيف) ترجما شعره إلى الروسية.
كتب شاعرنا الشعر، المسرحية الشعرية، المقالة الأدبية، والنقد الأدبي ومضى تاركاً من آثاره الأعمال الشعرية الكبيرة، وهي أحد عشر ديواناً: (المسافر 1950، المعركة 1952، حينما تمطر الأشجار 1955، الأردن على الصليب1957، فلسطين في القلب 1965، الأشجار تموت واقفة 1966، قصائد على زجاج النوافذ 1969، جئت لأدعوك باسمك 1972، آخر القراصنة من العصافير 1974، الآن خذي جسدي كيساً من رمل 1975، 88 يوماً من الحصار 1985). وآخر قصيدة له كانت بعنوان (القصيدة)، جامعاً فيها مختلف أشكال التعبير التي استخدمها في شعره من خلال نص درامي يموج بالحركة والصراع وبكل مقومات الشعر. أما الأعمال المسرحية فأبرزها: (ماساة غيفارا 1968، ثورة الزنج 1969 "التي تصف واقعة مشهورة في التاريخ العربي وتبني قضية الثورة بمعناها الشامل وسط الخيبة والمؤامرات والأمل"، شمشون ودليلة 1970، المنجم 1971، العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، الصخرة، محاكمة كتاب كليلة ودمنة: التي تؤكد على قوة الإرادة لدى الإنسان الذي هو رمز الشعوب المجروحة المعاقة والقادرة على تجاوز أعماقها وتحقيق وجودها)
له أعمال نثرية ودراسات أبرزها: (نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة 1970، مات الجبل عاش الجبل 1974، دفاعاً عن البطل 1975، البلدوزر- مقالات 1975، غزة مقاومة دائمة، عودة الطائر- قصة، دفاتر فلسطينية عام 1978 وسجل فيها شاعرنا مرحلة نضاله في الحزب الشيوعي في قطاع غزة، كما يحكي عن تجربة الشيوعيين الفلسطينيين في القطاع على امتداد أحد عشر عاماً من (1952-1963)، وترجمت دفاتر فلسطينية إلى اللغة الروسية، كتاب الأرض– رحلات 1979، أدب القفز بالمظلات 1982، قصة المناضل الفلسطيني "باجس أبو عطوان" 1983.
آخر كتاب صدر له بعنوان "الاتحاد السوفياتي لي" باللغتين الروسية والعربية، وهو محصلة جولات وزيارات في مختلف جمهوريات الاتحاد السوفياتي استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً.
في عام 1983 صدر له في ألمانيا مجموعة شعرية باللغة الألمانية " هي عبارة عن منتخبات صدرت المجموعة ضمن (السلسة البيضاء) التي نشرت للشعراء الروس أمثال: بيلا اخمادولينا، رسول حمزانوف، يفجيتي يفتشكو، وللشاعر الإنجليزي ت. س. اليوت. وللشاعرين الفرنسيين: بول ايلوار، ولويس اراغوان، ومن اليونان: اليونان يانيس، ريتسسون.. وغيرهم.
توفي إثر سكتة قلبية في الرابع والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني 1984 في لندن في طريقه إلى موسكو في مهمة كان مكلفاً بها من القيادة الفلسطينية، والجدير ذكره أن السلطات الإسرائيلية رفضت الإستجابة لطلب من السلطات المصرية بدفنه في مسقط رأسه (غزة)، وشُيّع في القاهرة، وشارك في تشييعه زهاء 500 شخص في مقدمتهم تاج الدين أبو النصر ممثلاً للرئيس المصري حسني مبارك، والدكتور أسامة الباز وكيل وزارة الخارجة المصرية ومدير مكتب الرئيس للشؤون السياسية آنذاك، ووفد كبير من منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح.. ووري الثرى في مدينة نصر بالقاهرة. منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون في عام 1990. له من الأبناء: (توفيق)، ومن البنات (داليا، مليكة).
ومن الأهمية بمكان أن أشير إلى حفل التكريم الذي أقامه المركز الثقافي الفرنسي بغزة في العشرين من آذار 2007 بمناسبة عيده الثمانين حيث قال الكاتب أحمد دحبور: (إن بسيسو نذر صوته للجماهير الشعبية وقضايا التحرر باعتناق الواقعية الإشتراكية مدرسة في التعبير والأداء، وأضاف أن المؤرخ المعاصر يستطيع أن يجمع فصول تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، من شعر بسيسو منذ قصائده المبكرة في مواجهة النكبة، ورفض توطين الشعب الفلسطيني خارج بلاده، وصولاً إلى مرحلة الثورة الفلسطينية بكل ما تضمنته من معاناة وألم وأمل فضلاً عن توجهه بالخطاب المباشر إلى الشعوب المكافحة من أجل الحرية والتحرر... وظل مرتبطاً بالحركة الوطنية الشعبية مستخدماً أحياناً وسائل قديمة في التعبير بإعتبار أن هذه الوسائل مألوفة في الثقافة السائدة، من غير أن تغفل عينه عن مكتسبات الشعر الحديث... حيث اهتدى إلى الشعر الحديث بعد بضع سنوات قليلة من ظهور أول قصيدة عربية حديثة، سرعان ما حقق خطوة نوعية عندما اهتدى إلى المسرح الشعري، مشيراً إلى أن تجربته في مصر وفرت له مناخاً طيباً لكتابة المسرحيات القابلة للتمثيل..)
مات الشاعر، وبقي النشيد المدوي:
أنا إن سقطت فخذ مكاني
يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يخفك
دمي يسيل من السلاح
ج
أنا لم أمت أنا لم أزل
أدعوك من خلف الجراح
ج
وانظر إلى شفتي اطبقتا
ج على هوج الرياح
وانظر إلى عيني أغـ
ج مضتا على نور الصباح