الحكيم : عاش ومات من أجل شعبه وقضيته العادلة محاربا الظلم والاضطهاد

بقلم: هيلدا حبش

سبع سنوات مضت على رحيلك أيها الحكيم في 26 كانون الثاني (يناير) 2008؛ يا رفيق الدرب النضالي الطويل. سبع سنوات عجاف مرت علينا وعلى شعبنا، وأنت ما تزال تسكن وتشغل القلوب والعقول. نفتقدك اليوم أكثر من أي وقت مضى، في هذا الليل الحالك وهذا الزمن الرديء؛ زمن يتجمد فيه الدم في عروق أطفالنا، ويموتون قهراً وبرداً وجوعاً؛ تعصف الرياح العاتية بخيامهم، وتجرف معها ما تبقى من نبض للحياة الحرة الكريمة. هو زمن تُدمر فيه الأوطان.

كل ذلك يجري أمام مرأى ومسمع العالم المتحضر الهش. عالم تجمدت فيه العواطف الإنسانية، ومات الضمير، واندثرت القيم والمبادئ التي تربينا عليها. عالم تسوده الصراعات الإقليمية والدولية والمصالح الذاتية الضيقة، ويتهافت على نهب ثروات وطننا العربي، ويبني أمجاده على حساب تدمير حضارة الشعوب، ولو تطلب ذلك إبادة جماعية لشعوب بأكملها؛ بتاريخها وحضارتها ومستقبلها ومستقبل أجيالها.

عقود من الزمن عشتها إلى جانبك أيها الحكيم، عاصفة بالأحداث التاريخية، بكل ما حملته من منعطفات خطرة كانت تتطلب منا أعلى درجات التضحية والتفاني وإنكار الذات.

منذ أن ارتبطت بالدكتور جورج حبش في 30 تموز (يوليو) 1961، والتحقت بصفوف حركة القوميين العرب، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام أحداث كبيرة كانت تعصف بالوطن العربي والأمة العربية. وكان حدث الانفصال بين سورية ومصر أكبر صدمة في بداية حياتنا الزوجية؛ إذ تبددت آمالنا وأحلامنا بالوحدة العربية بين سورية ومصر. وكانت أول تجربة نضالية لي مشاركتي في المظاهرات العارمة المؤيدة للوحدة التي عمت شوارع دمشق، حيث كانت منظمة المرأة ضمن "الحركة" على رأس المشاركين في تلك المظاهرات التي تعرضت للقمع من الشرطة السورية.

وبدأت الملاحقات الأمنية والاعتقالات والمضايقات، وأغلقت مكاتب حركة القوميين العرب في دمشق. واعتقل الحكيم في ظروف صعبة، إذ كنت حاملا في الأشهر الأولى. وعندما وضعت ابنتي ميساء، حملتها وهي في عمر أسبوعين فقط، لتزور أباها في سجن المزة في حرارة تموز المحرقة.

مسيرة نضالية شاقة
اسمحوا لي أن أستعيد شريط الذكريات، لأستذكر عشرات السنين التي قضيتها إلى جانب رفيق الدرب في مسيرته النضالية الشاقة والمعقدة.

استذكر المراحل العظيمة في حياتنا المشتركة، بكل قوة وعنفوان في مواجهة التحديات والتجارب الصعبة كافة، بمعنويات عالية لم تهزها العواصف ولا الأعاصير السياسية. مسيرة تاريخية بكل ما حملته من انتصارات وإخفاقات ودروس وعبر. لكنها كانت مفعمة بالأمل والإيمان والتحدي والتصميم على مواصلة الكفاح، لاستعادة الأرض المغتصبة من براثن العدو الصهيوني.

في هذه الذكرى الأليمة، سأتحدث عن الجانب الإنساني في حياة الحكيم، وعلاقته الوثيقة بعائلته الصغيرة التي انصهرت في أتون الأحداث والمعارك الملتهبة. فرغم مشاغله وهمومه، إلا أنه كان ينتزع الوقت، ولو لبضع ساعات، للجلوس معنا والتحدث إلينا والاستماع إلى مشاكلنا. وكنّا نبادله نفس المشاعر الجياشة والمتأججة، ونعبر له عن مدى حبنا واشتياقنا له. كان يمثل لنا حالة من النقاء الإنساني والثوري النادر.

في تلك المرحلة من عمرنا، كنت أدرك تماماً أنني ارتبطت بالطبيب الإنسان الثائر على الظلم؛ الطبيب الذي ربط مصيره بمصير شعبه، وانحاز للفقراء والكادحين والمقهورين الذين ذاقوا مرارة النكبة وعاشوا تداعياتها، من تهجير وتشريد وظلم وقهر وحرمان. كان رجلاً استثنائياً؛ عاش ومات من أجل شعبه وقضيته العادلة، ووهب حياته وعصارة فكره وعلمه وتجاربه لمحاربة الظلم والاضطهاد. هكذا بدأت رحلتي النضالية والأمنية مع الحكيم، وعقدت العزم على أن أكون على قدر هذه المسؤولية؛ رفيقة درب بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ولتقع على عاتقي الكثير من المهمات الصعبة والتحديات، لأكون على مستوى الرجل وعلى مستوى تضحيات جماهيرنا ومصدر ثقة الحكيم. وكنت مؤتمنة على حياته وأسراره، أشاركه قسوة الحياة وشظف العيش. وكانت هذه قيمة معنوية كبيرة تغنيني عن كل ما افتقدناه من ترف الحياة؛ قيمة تعوضني عن العمر الذي التهمته نيران التجارب والأحداث المريرة التي عشناها معاً، بكل صعابها وتعقيداتها.

منذ تعرفت إلى هذا الإنسان الكبير، تعرفت إلى السجون ومخافر الشرطة والمخابئ تحت الأرض، وحياة المنافي والتنقل بجوازات سفر متعددة، بجنسيات مختلفة وأسماء مستعارة، إضافة إلى محاولات الاغتيال والاختطاف والملاحقات الأمنية من قبل "الموساد" والاستخبارات الأميركية، والعديد من القوى المعادية. منذ تلك اللحظة، أعلنت حالة الطوارئ والاستنفار، وتسلحت بأقصى حدود اليقظة والحذر، وتدربت على السلاح. لقد كنت أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه أمنه وسلامته، ولم تكن حياتي مع مثل هذا القائد مفروشة بالورود، ولم تكن نزهات على شواطىء بيروت، ولم نعش في برج عاجي كما يتخيل البعض؛ بل شركاء حقيقيين، وجزءاً لا يتجزأ من مسيرته التاريخية الشاقة. مشينا معاً درب الآلام، وكنا في قلب الأحداث الساخنة نشكل له، نحن أسرته، الجدار الاستنادي لدرء الخطر عنه.

تلك الظروف القاسية انعكست على حياتنا الخاصة، وحياة ابنتينا ميساء ولمى اللتين طالهما قسط وفير من التحمل والصبر والتضحية. كانت معاناتنا كبيرة، وكان علينا بعد كل عملية فدائية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن ننتقل الى أماكن أكثر أمناً، وننقل طفلتينا ليلاً وهما نيام، حفاظاً على سلامتهما.

لا مكان للطموح الشخصي
من يعش مع الحكيم، لا مكان لديه لأي طموحات شخصية. فعليه أن يسقط الـ"أنا" من قاموسه، ويدرك تماما أن المسؤولية ليست مكاسب ولا امتيازات ذاتية ومناصب حزبية خالية من أي مضمون ثوري؛ بل تفان وعطاء وإنكار للذات الى أبعد الحدود. فعندما أصبح عمر ابنتنا لمى سبع سنوات، كان الأب بالنسبة لها عبارة عن صورة معلقة على الجدار. كنت أحمل ابنتينا وهما صغيرتين ليزورا والدهما في القواعد العسكرية، أو في مكاتب "الجبهة" داخل المخيمات، ونشعر بمرارة لعدم تمكنه من العيش معنا، وهو على بعد خطوات منا. كان الغائب الحاضر في قلوبنا دائماً، مشدوداً لرؤيتنا، ويحاول جاهداً أن يوفق بين طبيعة عمله وبين دوره كأب وزوج مثالي.

كنا نلتقي على وقع الأوضاع الأمنية، ودوي الانفجارات والصواريخ، خاصة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت. في خضم المعارك تلك، وبعيداً عن وسائل الإعلام، كنت أقوم بواجبي تجاه شعبي. إذ تفرغت للأعمال التطوعية الإنسانية؛ أزور الجرحى والمهجرين، وأهتم بشؤونهم اليومية للتخفيف من آلامهم، وخاصة مهجري مخيم تل الزعتر. وكنت على رأس لجنة طبية اجتماعية تابعة للجبهة الشعبية، وأشرفت على مشروع إحياء التراث الفلسطيني؛ أتنقل من مخيم إلى آخر باسم الرفيقة منى، من دون أن يعرف أحد هناك أني زوجة الحكيم. وكانت نساؤنا ينسجن أجمل القطع الفنية والأثواب المطرزة بألوان زاهية جميلة. هي ذكريات ستبقى محفورة في الوجدان.

كنت والحكيم نتبادل الرسائل القصيرة الخاطفة يومياً، لتحديد مكان وموعد اللقاء، للحفاظ على سرية التحرك. وأحياناً نلتقي لتناول فنجان القهوة معا في الصباح، قبل أن يبدأ عمله. كنا ننتظر تلك اللقاءات بشغف بالغ.

كان الحكيم هو الزعيم الوحيد الذي يتنقل من دون مواكب حراسة وسيارات فارهة. وفي غالب الأحيان، كنت السائق الوحيد معه، وأحياناً يتبعنا الرفاق في سيارة أخرى، وذلك لإيماننا أن السرية في الحركة والتنقل وتغيير أماكن السكن باستمرار، والتخفي والابتعاد عن الروتين اليومي، هو ما يشكل أفضل حماية لنا. والدليل على ذلك أن إسرائيل لم تستطع النيل من الحكيم على الأرض، مما اضطرها إلى تنفيذ محاولتين لاختطاف طائرتين وتحويل مسارهما إلى مطارات عسكرية إسرائيلية، للقبض عليه. كانت الحادثة الأولى في العام 1973، لطائرة "ميدل إيست" اللبنانية المغادرة من بيروت إلى بغداد؛ والثانية في العام 1986، لطائرة ليبية خاصة أقلعت من مطار طرابلس الغرب باتجاه دمشق. لكن المحاولتين باءتا بالفشل، إذ لم يكن موجودا على متن أي منهما، رغم وجود معلومات مؤكدة لدى إسرائيل بهذا الخصوص. فنجا الحكيم بأعجوبة؛ إذ كان في المرتين متوجها بالفعل إلى المطار، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة لأسباب أمنية.

قيادة جماعية
علاقته بالرفاق في الجبهة الشعبية قامت على الاحترام المتبادل، والتواضع والتسامح، والاهتمام بشؤونهم الحياتية والعائلية الخاصة. كان الأب الروحي لكل منهم؛ يحترم حرية الرأي والتعبير، ويجسد القيادة الجماعية فكراً وممارسة. لم يكن يوماً دكتاتوراً، بل أرسى قواعد الديمقراطية في صفوف "الجبهة"، واعتمد أسلوب التوعية والتثقيف الحزبي، وإعطاء الرفاق الفرص للقيام بدورات فكرية تثقيفية مكثفة. وقد أنشأ مدرسة الكادر لهذا الغرض، وكنت إحدى الملتحقين بها. وأذكر كيف تلقيت بعض الدورات النظرية في ذلك الوقت.

عاش الحكيم بين المقاتلين في المواقع الأمامية وقت المحن والشدائد والمواجهات للدفاع عن الثورة، يتقاسم لقمة العيش معهم ويشد من أزرهم. وهذا ما كان يعطيهم دعماً معنوياً مهماً، ووقوداً يشحن عزيمتهم للتصدي للأخطار كافة المحدقة بهم. كان قدوة ومثلاً أعلى لجميع الرفاق الذين أحاطوه بمحبتهم، كما كان صمام الأمان لعائلته ورفاقه وشعبه، مترفعاً دائما عن الصغائر، يعتمد أسلوب الحوار الديمقراطي في حل التعارضات والخلافات السياسية بين التنظيمات والفصائل الفلسطينية. وقد حظي باحترام الجميع، لما كان يتمتع به من خلق رفيع وقيم سامية لا يحيد عنها، حتى أصبح يطلق عليه، عن جدارة وبامتياز، لقب "ضمير الثورة". وعمل جاهداً على تحقيق الوحدة الوطنية بين القوى الفلسطينية كافة، فلم يكن يعرف التعصب الديني أو الطائفي أو الحزبي، ولا الأحقاد، بل كان متسامحاً حتى مع خصومه السياسيين. لكن الثوابت الوطنية بالنسبة له خط أحمر لا يمكن التفريط بها. فبقي قابضاً على جمر مبادئه طيلة حياته النضالية، وهذا ما منحه ثقة الشعب الفلسطيني والعربي، وثقة جميع القوى الحرة والصديقة المؤيدة للثورة.

صديق ومدافع عن حقوق المرأة
على صعيد المرأة، فقد كان يؤمن بقدراتها وطاقاتها، وبدورها الأساسي في النضال، ومن الداعين إلى المساواة بينها وبين الرجل، وتحريرها من قيود المجتمع، ومن الظلم والاضطهاد اللذين يقعان عليها. وكان يحرص على الاحتفال سنوياً بعيد المرأة العالمي في 8 آذار (مارس) من كل عام، ويلقي كلمة مؤثرة في تلك المناسبة في مخيم شاتيلا، ويحرص على أن أكون برفقته إلى جانب عدد كبير من الضيوف والأصدقاء والرفيقات في الجبهة الشعبية.

وقبل أن أنهي هذه الكلمات، أود أن أنوه إلى أنه ما يزال هناك الكثير الكثير من الأحداث التاريخية المهمة التي تزدحم بها الذاكرة، لكن لا مجال لسردها في هذه المناسبة لأنها تحتاج إلى مئات الصفحات لتدوينها.

بقي الحكيم حتى آخر رمق من حياته صادقاً وفياً لشعبه، منسجماً مع نفسه ومبادئه، يجسد كل كلمة كان يقولها. وهو سيبقى الضمير الحي في تاريخ الثورة الفلسطينية، كما ستبقى ذكراه حيّة متوهجة في قلوب جميع محبيه، وفي وجدان شعبه وأمته العربية.

المجد والخلود لروحه الطاهرة. وتحية إجلال وإكبار لجميع الشهداء الأبرار الذين رووا أرض الوطن بدمائهم الزكية.

عمّان - الاردن - هيلدا حبش