هذا هو الإسلام
الخلاف بين السنة والشيعة هل هو خلاف مذهبي أم صراع سياسي وعسكري/1
الناظر إلى واقع الأمة الإسلامية اليوم يذهل من مشاهد الاقتتال والقتل والذبح والإرهاب بين السنة والشيعة في سوريا والعراق واليمن ولبنان والبحرين ، ويلمس الانعكاس السلبي لهذا المشهد المؤلم على صورة الإسلام في عيون الآخرين ؛ وهو الدين العالمي الذي جاء لإسعاد البشرية وإرساء قواعد التعاون والتعارف وتبادل المعلومات والمعارف بين المسلمين وغيرهم ؛ ناهيكم عن التعاون فيما بين المسلمين أنفسهم ، ويدرك آثاره المدمرة على المسلمين وعلى وحدة الأمة الإسلامية ومخالفتها قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع { لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض } رواه البخاري .
إن صعوبة هذه الحال توجب بيان طبيعة الخلاف بين المذاهب الإسلامية وبالأخص السنة والشيعة ، وأن لا مبرر أبداً لتحويل هذا الخلاف إلى صراع سياسي واقتتال عسكري ، وبيان حرمة السكوت عن ذلك أو السماح لمن يلعبون بهذه الورقة تحقيق أهدافهم الخبيثة ومكاسبهم السياسية بتمزيق الوحدة الإسلامية من خلال تأجيج هذا الخلاف المذهبي وتطويره إلى اقتتال باسم الدين الإسلامي البريء ممن يلبسون عباءته ويتاجرون باسمه ، فلا يجوز لأحد الافتيات على الإسلام أو تزوير مبادئه في العدل وحرية العقيدة والمساواة والحفاظ على حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية ؛ وذلك بالقتل على الهوية بسبب الخلاف الديني أو المذهبي او بسبب المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية والتخلص من الاستبداد والقهر ، فهذه جريمة أخرى لا تقل بشاعة عن الكفر أو الردة عن الإسلام .
وحتى نضع أيدينا على مصدر العنف والإرهاب في العالم وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط يقتضينا التأصيل لذلك ببيان عظمة رسالة الإسلام ، فبذلك نبطل أيّة محاولةٍ لإلصاق تهمة الإرهاب أو العنف بهذا الدين أو برسوله محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث للإنسانية جمعاء ، قال تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء 107 ، ويقتضينا بيان أن من يفعل خلاف ذلك فإنه يعتدي على هذا الدين الحنيف ، فعلى علماء الأمة التحلي بهذه الشجاعة وتوضيح حقيقة الأمر بالرجوع إلى القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية المشرفة ؛ لأن القاعدة في بيان الحكم الشرعي هي تنزيل الأدلة الشرعية الصحيحة على الواقع ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من محاولات الانحراف برسالة الإسلام العظيم وتعاليمه السمحة بقوله { إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين } رواه الترمذي .
إن هذا الأمر يحتم علينا اولاً بيان موقف الإسلام من غير المسلمين وكيفية التعامل معهم فهذا أصل في بيان كيفية التعامل فيما بين المسلمين انفسهم من باب أولى ، فهذا الدين لا يقف عند حد قبول الآخر ؛ بل ويتعايش معه على الرغم من الاختلاف معه في الدين .
والتعددية الدينية تعني الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء الديني في المجتمع الواحد أو الدولة التي تضم مجتمعاً أو أكثر ، واحترام هذا التنوع ، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين ، خلق لكل منهم عقلاً يفكر به ، ومنحه إرادة يرجّح بها ، وملكات وقوى ومواهب حتى يختار لنفسه ويقرر مصيره ، قال تعالى { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين } يونس 99 ، ولكنه ترك لهم الحرية مع تحمل تبعات ونتائج هذا الاختيار ، قال تعالى { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } الكهف 29 .
ففي ظل الإسلام لا تُلغى الديانات الأخرى ، بل يخاطبها القرآن الكريم معترفاً بوجودها ، بل لقد اعتبرها وسماها ديناً ، وترك لأتباعها حرية الاختيار ، قال تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } الكافرون 1-6 ، جمعت هذه السورة بين أمرين قد يبدو ظاهراً أنهما متناقضان ، الاعتزاز والتمسك بالإسلام إلى أقصى حد ، والتسامح مع المخالف إلى أقصى حد ، فهذه السورة الوحيدة التي خاطب الله تعالى فيها الكافرين بعنوانهم وباسمهم ، بينما كان يخاطبهم سبحانه : يا أيها الناس ، يا بني آدم ، يا عبادي ، يا أهل الكتاب ؛ وهذا منتهى التسامح .
وحينما يقبل الإسلام بوجود سائر الأديان والاتجاهات ضمن مجتمعه وفي ظل دولته ، فإنه يمنحهم الحرية الدينية الكاملة في ممارسة شعائرهم وطقوسهم التعبدية ، والالتزام في أحوالهم الخاصة والشخصية بأحكامها وتعاليمها دون أن يفرض عليهم شعائره أو شرائعه ، ودون أن يتدخل في شؤون أديانهم .
لذا يجب على أهل الأديان أن يسع بعضهم بعضاً ، فلا يصح أن يُجْبَرَ الناس على ترك دينهم ليعتنقوا ديناً آخر لمخالفة ذلك لنهج الإسلام ، قال تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } البقرة 256 ، فينبغي علينا إذن كمسلمين قبل غيرنا أن نسع المخالفين ، فلا يجوز لنا قهرهم على اتباع ديننا كما لا نجيز ولا نرضى لأحد أن يقهرنا على ترك ديننا أو يمنعنا طاعة ربنا ، هذه هي التعددية الدينية التي قررها الإسلام سواء في العهد المكي والعهد المدني .
اعترف الإسلام بالأديان الأخرى بل وسعها ، فعاشت في ظلاله قروناً لما كان المسلمون سادة العالم ولهم القوة الأولى في الدنيا ، كانوا يستطيعون ـ لو أرادوا ـ أن يفرضوا عليه دينهم ويكرهونه على الإسلام ، لكن ذلك لم يحدث أبداً ؛ لأن الإسلام لا يقبل إيماناً فيه شبهة إكراه ، وإلا فهذا هو النفاق المقيت ومرض القلوب الذي حاربه القرآن الكريم وحذر منه وكشف حقيقة نوايا أهله وفضح زعماءه ، فالإيمان لابد أن يكون اختياراً محضاً لصاحبه .
ولذلك لم يذكر التاريخ أن المسلمين أجبروا أحداً على دخول هذا الدين بشهادة المستشرقين الغربيين أنفسهم ، فقد ظل أهل البلاد المفتوحة عسكرياً أو دعوياً على دينهم ، وعاشوا في المجتمع الإسلامي داخل الدولة الإسلامية أهل ذمة ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، لهم كنائسهم وصلبانهم ونواقيسهم وأزياؤهم ، لم يُجْبَرْ أحد منهم على تغيير زيه ليكون مثل المسلمين ، ولم يجبر على ترك مباحٍ في دينه لمجاملة المسلمين ، بل سمح لهم (بشروط محددة) أن يعيشوا في بلاده وهم يشربون الخمر ويربون الخنازير ويأكلون لحومها وهذا من مباحاتهم وليس من فرائض دينهم ، هذا هو التسامح .
فالتعددية الدينية تفتقر إلى التسامح ، وهي من روائع ما جاء به الإسلام ، يدفع المسلم أن يتعايش بتسامح منقطع النظير مع المخالفين له ، ولا أدل على ذلك من اعتباره الإيمان بجميع الرسل ورسالاتهم وكتبهم السماوية من أركان الإيمان لا يصح بغيره ، قال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلُّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وُرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِير } البقرة 285 .
بل يوحي قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } البقرة 62 بأن النجاة في الآخرة ليست مقتصرة على المسلمين وحدهم ؛ بل تشمل كل من وحَّد الله تعالى وآمن بيوم الحساب وتقرب إلى الله بالعمل الصالح ، ولا يتصور أن يكون هذا الإيحاء منافياً لقوله تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ } آل عمران 19 ، أو قوله تعالى { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } آل عمران 85 ، فالدين اسم لجميع ما تعبَّد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه ، والإسلام هو الدخول في السلم ، وهو الانقياد في الطاعة . فيمكن حمل المقصود بدين الإسلام على أنه الدين الإلهي الذي جاء به الرسل وانتسبوا إليه جميعاً بدءاً من نوح عليه السلام وانتهاء برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الدين القائم على الانقياد والاستسلام لله الواحد ، قال تعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام { ... وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ } يونس 72 ، وقال سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم { ... يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ } البقرة 132 ، وقال أيضاً على لسان سيدنا موسى { ... يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } يونس 84 ، وقال على لسان الحواريين { ... نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } آل عمران 52 ، وعلى لسان ملكة سبأ { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } النمل 44 .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]