الأزمات السياسية والحياتية للمواطنين، أخذت تتفاقم، وتجتاح ما تبقى من عوامل الصمود، وتطيح بكل الأحلام الكبيرة منها والصغيرة، فيما لا تزال حسابات الأطراف الفلسطينية الفاعلة، والمسؤولة عن استمرار الانقسام، تضرب أخماسها بأسداسها، وترتبك حساباتها مع ارتباك وتطورات الوضع العربي والإقليمي.
لا يجد المواطن الفلسطيني فرصة للتفاؤل، بأن القضية الفلسطينية لا تزال تحظى بأولوية العرب والعجم، فيما تتركز الاهتمامات والأنظار نحو مشروع الدولة الإسلامية وتداعياته، أو على ما يجري في اليمن من تحولات جذرية، لتشكل عنصراً قوياً وفاعلاً، وشديد التأثير على سياسات وحسابات، ومواقف دول مجلس التعاون الخليجي.
كثيرون ينتظرون جديداً مختلفاً عما سبق، بعد تسلم العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، مقاليد الحكم في السعودية، وبعض هؤلاء ينتظرون إعادة النظر في حساباتهم على ضوء هذا المتغير، الذي يحتاج هو الآخر إلى التريث قبل أن يقدم رؤيته لدور السعودية في المنطقة والإقليم وهو دور مهم، وبخاصة في ضوء الحدث اليمني.
العرب، كل منشغل بهمومه ومخاوفه، التي تطغى على أي اهتمام آخر، بضمن ذلك القضية الفلسطينية، فها هي السلطة تصرخ ليل نهار للشهر الثاني على التوالي، بسبب احتجاز إسرائيل للأموال الفلسطينية، دون أن يتقدم العرب لتنفيذ ما يترتب عليهم من دعم مالي لتعويض العجز الفادح في قدرة السلطة على الوفاء بالتزاماتها.
أين هو قرار العرب بشأن توفير شبكة أمان مالية بمقدار مئة مليون دولار للسلطة في حال تعرضت لقرارات إسرائيلية باحتجاز أموال الضرائب؟ لا يدرك العرب أن تنفيذ هذا القرار هو استحقاق واجب وضريبة انتماء، فضلاً عن أنه موضوعياً، يشكل أحد أهم عوامل استقرار من تبقى منه ينشد استقراراً، ذلك أن انفلات كوابح الصراع مع إسرائيل، من شأنها أن تخرج المارد الفلسطيني عن كل الضوابط والقيود.
مئة مليون دولار كثيرة بالنسبة للسلطة، فهي تحل مشكلة مئات آلاف الأسر، لكنها تدخل في خانة الآحاد العشرية بالنسبة لبعض الدول، أو حتى بالنسبة لبعض الأغنياء العرب.
ولكن عودة إلى الأوضاع الفلسطينية البائسة، ينبغي على المسؤول السياسي أن يدرك بأن الناس على الأقل هنا في قطاع غزة، لم يعودوا ينتظرون وفوداً، وزيارات، ولقاءات، وهم قد فقدوا الأمل بكل ما يصدر عن القيادات السياسية، بشأن المصالحة واستعادة الوحدة، وهم يلمسون ويرون، ما يجري على الأرض، ويراقبون عمليات التحريض والتعريض والاتهامات المتبادلة، المقرونة بممارسات على الأرض باتت تهدد أمن المواطن.
الآن يدرك بعض الأطراف، مدى أهمية أن يتجاوز الحوار طابعه الثنائي بين فتح وحماس، إلى الطابع الوطني الجماعي، وذلك أن التجربة السابقة أنتجت فقدان الأطراف الثقة ببعضها، وعمّقت من طبيعة الخلافات والمخاوف المتبادلة.
الأسابيع الأخيرة شهدت الحوارات التي تجري في قطاع غزة قدراً من الموضوعية والإيجابية، وقدراً أكبر من الانفتاح على الآراء والاقتراحات بشأن الخروج من الأزمة، بالرغم من أن ذلك لم يؤد إلى تغيير في مواقف الأطراف، أو إلى مبادرات لتحريك المياه الآسنة التي تجري في الأرض السياسية الفلسطينية.
الرئيس محمود عباس، أصدر قراراً بتشكيل فريق وطني متخصص للعناية بملف محاكمة إسرائيل دولياً على ما ارتكبت وترتكب من جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني، أي أن الرئيس يأخذ بمنطق المأسسة لهذا الملف، الذي لا يجوز أن يديره، سوى أهل الاختصاص، وهؤلاء بالتأكيد سيعملون تحت مسؤولية القرار السياسي.
يبدو لي أن ملف المصالحة واستعادة الوحدة، قد بلغ هو الآخر، حداً من التعقيد، الذي يحتاج إلى مأسسة. هذا الملف لم يعد فلسطينياً محضاً، ولم يعد فصائلياً وحسب، فثمة تداخلات وتدخلات مؤثرة إلى حد كبير في صياغة الأوضاع الداخلية الفلسطينية.
نأمل ألاّ نعود كفلسطينيين إلى ما سبق من اتهامات متبادلة، هذا يتهم الآخر، بالخضوع لتأثيرات إيرانية، وذاك بالخضوع لتأثيرات أميركية أو أوروبية أو إسرائيلية، فلقد بات معلوماً أن تحقيق أي إنجاز من قبل هذا الطرف أو ذاك على أساس فصائلي لا يمكن أن يثمر على أرض الواقع للشعب الفلسطيني طالما بقي الانقسام.
المقصود بالمأسسة هنا، هو أن تتفق الأطراف الفلسطينية بمجموعها على تشكيل لجنة حكماء وطنية، تنخرط في تقديم قراءة تحليلية للظروف المحيطة، وآثارها على القضية الفلسطينية، وتضع سيناريوهات وبدائل بالإضافة إلى تقديم مقترحات، بشأن استراتيجية وطنية جديدة، تؤسس لبرنامج اجماع وطني سياسي، ولتحديد سبل الخروج من عنق الزجاجة فيما يتعلق بإعادة بناء الوضع الفلسطيني برمته.
نعلم أن الحكماء موجودون داخل الفصائل وخارجها، ونعلم أيضاً أن ثمة العديد من مؤسسات الدراسات والبحث الجاد، قد حضرت وأنجزت الكثير من الأوراق المهمة، والصالحة، لكن أحداً لم يتعاط معها بما تستحق من جدية.
نذكر في هذا المجال ما أنجزته مؤسسة مسارات، من أوراق بحثية، شارك في إنجازها عشرات الشخصيات الوطنية فصائلية وغير فصائلية، خصوصاً في ملفات المصالحة الوطنية، بما يعني أن اللجنة الوطنية للمصالحة لن تبدأ من الصفر.
التوافق حول مثل هذه اللجنة، يعطيها القوة والحصانة، والقدرة على الإشارة باصبع اليد إلى مكامن التعطيل، والجهات المسؤولة عن ذلك، في حال وقوعه، ويجعلها قادرة على تقديم أوراق عمل بعيدة عن العصبوية، وبعيدة عن الحسابات الفصائلية، وبعيدة ولكن ليس بمعزل عن قراءة، المؤثرات الخارجية.