الكل يعرف بأن الولايات المتحدة تشتغل في المنطقة، بأدوات وأشكال مباشرة سافرة في معظم الأحيان، وأخرى غير مباشرة لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وتركيزا على المنطقة العربية.
معنى الشرق الأوسط الجديد، او الكبير الذي بشرت به وزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس، هو إخضاع المنطقة لمخطط تقسيمي لتفتيت الدول الوطنية على غرار سايكس بيكو، لكي يتسنى للولايات المتحدة واسرائيل، توفير ضمانات جيوسياسية واقعية، لتعميق وتوسيع مصالحها وهيمنتها على ثروات المنطقة.
المخطط الأميركي قطع شوطا لا بأس به، وتقدم على نحو شديد الخطر، ابتداء من السودان الذي جرى تقسيمه الى دولتين، الجنوبية منهما تحولت الى مرتع للموساد الإسرائيلي، واجهزة المخابرات الأميركية، وهو يمر من فوق أشلاء ليبيا، واليمن، والعراق وسورية.
ما يترتب على العرب ادراكه هو ان المخطط الأميركي الإسرائيلي لا يستثني اي دولة مهما كانت طبيعة علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية بما في ذلك وأساسا الدول التي تقف على خزانات النفط والغاز، وبأن لغة المصالح الأنانية لا تتعرف على الأخلاق، ولا تعرف الصداقات والشركات.
ستندم بعض الدول العربية التي انخرطت بحسن نية أو بسوء نية في مخططات تصدير وإشعال النيران في دول عربية أُخرى، وستكتشف ان المخرجات ستكون اشد خطورة بمئات المرات من تحمل المخاطر والسلبيات التي كانت تصدر عن الدول التي وقعت ضحايا لهذه الحسابات الخاطئة.
وربما كان على هذه الدول وخصوصا دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ان تراجع حساباتها جيدا، حيث أخذت النيران تقترب من حدودها الجنوبية، اثر سيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن وعلى حدودها الشرقية حيث ايران القوية، التي تملك مشروعا لنفسها وللمنطقة. هذا يعني انه ينبغي ان يكون لدول الخليج والدول العربية استراتيجية، ومشروع، لا يمكن ان يكون الا مشروعا عربيا، ويعتمد على الإمكانيات والطاقات العربية.
واكثر من ذلك فإن القوى والجماعات على اختلافها، التي ارتضت ان تكون أدوات لتنفيذ المخططات الأميركية، او المساعدة على تمريرها، ستندم هي الأُخرى اشد الندم، حين تكتشف انها لن تحصد الا الريح وأنها انما ساهمت في تبديد مقومات ومقدرات الأمة العربية بدون ان تحظى بنصيب الا ما ينطوي عليه حكم التاريخ من لعنات لهذه القوى.
النوايا الحسنة غير كافية، وبعضها طريقه الى جهنم، والمشكلة هي ان الولايات المتحدة تبادر الى خلق ظواهر سياسية في المنطقة، تبدو وكأنها مرضي عنها، ثم تحولها هي ذاتها الى أعداء لتبرير تدخلاتها المباشرة، العسكرية وغير العسكرية في المنطقة لجهة تنفيذ مخططاتها التقسيمية.
زيارة الرئيس بوتين لمصر، تقدم سياقا آخر، للشرق الأوسط المطلوب، من قبل شعوبه، وليس من قبيل أطراف طامعة، ومعادية لشعوب المنطقة، شرق أوسط يقوم على مبدأ مقاومة الهيمنة الأميركية الإسرائيلية، ومقاومة مخططات تشظية الدول العربية.
كانت روسيا، قد وقفت وما تزال الى جانب النظام في سورية وتسعى في الوقت ذاته الى حماية سورية من الانقسام، والضغط من اجل تفعيل المسار السياسي، الذي يضمن تطوير النظام السياسي في سورية لصالح الشعب السوري، وها هي تتقدم اليوم، نحو مصر الكبيرة، التي أرادت هي وبادرت الى إجراء تغيير جدي وجذري في علاقاتها الدولية.
العلاقة قائمة على الندية، فمصر التي اختبرت لاكثر من ثلاثة عقود، اقامة علاقات خاصة بالولايات المتحدة، تكتشف ان المرحلة قد أفقدت مصر دورها، الذي يليق بها وتتطلع إليه، وتكتشف ان الولايات المتحدة تقف على رأس القوى التي تتآمر على مصر، ووحدتها ووحدة أراضيها.
ليس صدفة، ان تقابل الجماهير بالتصفيق الحار، كل جملة تعيد الى الذاكرة، علاقات مصر أيام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بالاتحاد السوفياتي، والتي بقيت بعض شواخصها وشواهدها حتى الآن، رغم كل محاولات الإطاحة بها خلال العقود الثلاثة الماضية.
من الواضح ان الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان يملك هذه الرؤية منذ ان كان وزيرا للدفاع، حيث استقبل وزميله وزير الخارجية السابق كلا من وزير الدفاع ووزير الخارجية الروسيين، ثم رد الرجلان الزيارة الى موسكو.
وقبل زيارة الرئيس بوتين أيضا كانت الحكومة المصرية قد تعاقدت مع فرنسا، لاستيراد اربع عشرة طائرة مقاتلة، ما يؤشر الى ان مصر تتجه نحو تنويع علاقاتها، ومصادر تسلحها، وأنها تتجه نحو مغادرة الاعتماد الحصري، او الغالب على الولايات المتحدة.
هذا التوجه الاستراتيجي من قبل القيادة المصرية، وان كان لا يغلق الباب امام العلاقة مع الولايات المتحدة او سواها الا انه أولا يستند الى قراءة لآفاق تطور العلاقات على المستوى الدولي، تلك القراءة التي ترجح إزاحة أميركا عن دور القائد الحصري الاحتكاري للنظام الدولي، ويستند أيضا الى رؤية متفائلة لدور مصر على المستوى العربي والإقليمي ومن ثم الدولي.
اذا حاولنا ان نمد الخيط الى آخره، فإن تحول مصر عن الاعتماد على الولايات المتحدة وهو تحول لن ترضى عنه الأخيرة والأرجح ان تقاومه، سيعني إعادة النظر حكما في علاقات مصر بإسرائيل، ونحو التخلص تدريجيا من الشروط المجحفة التي تضعها اتفاقية كامب ديفيد، خصوصاً وأن إسرائيل لا تحترم هذه الاتفاقية، وهي منخرطة مع الولايات المتحدة في مخطط تقسيم الدول العربية، وهو مخطط يدرك المصريون انه لا يستثني بلادهم.
بقلم/ طلال عوكل
كاتب بصحيفة "الايام" الفلسطينية