الحقيقة أن لا أحد من المتابعين تصور أن نتنياهو يمكن أن يذهب إلى هذا الحد من الغطرسة، والحقيقة الأهم أن لا أحد تصور أيضا أن تبدو الإدارة الأميركية على هذه الدرجة من الوهن والضعف أمام نتنياهو، وربما أن ذلك يشكل مفاجأة صادمة لكل الذين بالغوا في قوة الإدارة الأميركية إلى الحد الذي تجاهلوا فيه مصالح شعوبهم في سبيل إرضائها أو خوفا منها، ... أنها تنكشف بشكل لم نره سابقا.
من المبالغات التي تم تصويرها كمسلمات ثابتة أن الإدارات الأميركية دائمة الخضوع لإسرائيل بسبب قوة ونفوذ اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة وفي مقدمته منظمة "إيباك"، ربما أن البعض استسهل هذا التفسير لتبرير العجز في مواجهة إسرائيل لكن أثبتت هذه الأزمة بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية غير ذلك. فالمنظمات الأميركية وعلى رأسها "إيباك" تنصلت من خطوة نتنياهو ونقلت للبيت الأبيض مبكرا وسائل مفادها بأن لا علاقة لها بتاتا بالزيارة وأنها مثل البيت الأبيض لم تبلغ مسبقا بها، أي أن "إيباك" تتنصل من خطوة رئيس الوزراء ومع ذلك يستمر هذا في تصميمه على الذهاب وإلقاء خطابه في الكونغرس في موعده دون دعم اللوبي.
في إسرائيل والولايات المتحدة، مصدومون من إصرار نتنياهو وعناده برغم كل ما قيل وكتب ونوقش وبالرغم من الإجماع في الدولة العبرية حتى من بين مؤيدي نتنياهو ومقربيه بأن "الثمن المعنوي الذي يمكن أن يدفعه نتنياهو إذا ما خطب في قاعة فارغة يتقزم أمام الأضرار التي ستنجم عن خروج الاتفاق مع إيران إلى حيز التنفيذ" كما نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" على لسان أحد هؤلاء المقربين، هذا عدا أن خمسة سفراء سابقين لإسرائيل في واشنطن التقتهم نفس الصحيفة دعوا نتنياهو إلى عدم الذهاب إلى هناك لأن "أضرار الخطاب أكثر من فوائده".
أما النظام السياسي الإسرائيلي الذي يتمايل على رياح الانتخابات والذي يدرك ماذا يعني أن يخطب رئيس الوزراء رغما عن الرئيس فقد كان هجومهم على نتنياهو أشد وأقسى، فما قيل من عبارات ضده وإن كانت تفوح منها رائحة الانتخابات لكنها قريبة من الحقيقة بأن "نتنياهو يغامر بالعلاقة مع الحليف الاستراتيجي من أجل كرسي الحكم" كما قالت ليفني وهرتسوغ وزهافا غلئون رئيسة حزب "ميرتس" اليساري.
لقد ألقى نتنياهو حجر خطابه في بركة السياسة ولم يترك للإدارة الأميركية ما يغطي ضعفها، حتى حين توفرت فرصة النزول عن الشجرة استمر في تعليق الرئيس الأميركي على فروعها الذي بدا في ذروة ضعفه في مؤتمره الصحافي مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل وكل ما قاله فقط هو "أن الزيارة تعكر أجواء المفاوضات" فرد نتنياهو بإصرار أنه ذاهب لإقناع أعضاء الكونغرس بأن رئيسهم يرتكب خطأ كبيرا ولا يعرف كيف يفاوض وهذا يمثل ذروة الغطرسة والتدخل في السياسة الداخلية للولايات المتحدة إنه يرغب بتحريض الكونغرس على الرئيس.
الديمقراطيون لم يستفيقوا بعد من صدمة إهانة رئيسهم وهم فعلوا كل شيء خلال ولايتي اوباما لإرضاء نتنياهو حتى عندما صفع وزير الخارجية جون كيري وخدعه لمدة تسعة أشهر وترك وزراءه يشتمونه علنا بأنه هاذ ومسيحاني وطامح لجائزة نوبل فلماذا ينكل نتنياهو بهم؟ فما دبر بليل بين الثلاثة نتنياهو ودريمر السفير الإسرائيلي بواشنطن وجون باينر زعيم الجمهوريين جعلهم يتراكضون من وقع الصدمة محاولين تدارك المسألة لكن نتنياهو لم يترك لهم منفذا فقد حسم الأمر.
لكن الحزب الديمقراطي ليس ضعيفا إلى هذا الحد فقد كانت أول ردود الحزب على نتنياهو تجريده من أهم مبررات الدعوة وهذه أولى خساراته التي صبت مباشرة في صالح إيران فقد أرادوا أن يعلموه درسا حين أعلن المسؤول الديمقراطي في لجنة الخارجية والأمن التابعة لمجلس الشيوخ بوب مينديز عن تراجعه عن اقتراحه قانونا كان قد بادر إليه بفرض عقوبات على إيران، وهذا الاقتراح هو الذي اعتمد عليه نتنياهو في خطابه المرتقب، متوقعا أن يلقى الاقتراح تأييدا من قبل الجمهوريين والديمقراطيين، والآن الاقتراح سحب ولم يعد هناك قانون لمعاقبة إيران، وسياسيو إسرائيل يقرؤون ذلك ويدركون أن الخسارات قادمة.
لكنهم يدركون أن نتنياهو يفضل مصلحته على مصلحة الدولة وهذا بالتأكيد في صالح إيران وفي صالح الفلسطينيين أيضا فمن كان يتصور أن يصل الخلاف لهذا المستوى وبهذا الشكل المعلن؟ فحين يعلن الرئيس الأميركي أن هناك خلافا حقيقيا مع إسرائيل يرد عليه مكتب نتنياهو بأن "لدينا خلافا عميقا مع الرئيس أوباما حول الملف النووي الإيراني" ثم يذهب أحد وزراء نتنياهو ومن مقربيه يوفال شتاينتس بأن إسرائيل ربما تتصرف ضد ايران لوحدها وكل الخيارات مفتوحة ..!
"هذه قلة احترام وإهانة لرئيس الولايات المتحدة وهذا لا يعتبر مساسا بالرئيس بل أيضا بالشعب الأميركي" هذا الحديث ليس لمحللين أو محرضين بين الجانبين بل لأعضاء لجنة المشرعين السود الذين أعلنوا أنهم سيقاطعون خطاب نتنياهو وعددهم 46 وليس كلهم ديمقراطيين، لكن غضب الديمقراطيين كان أبعد حين وجهوا لزعيم الأغلبية في الكونغرس صاحب الدعوة رسالة شديدة اللهجة قائلين له، "إنك تستخدم زعيم دولة أجنبية ضد رئيسنا".
في ستينيات القرن الماضي وقعت اتفاقية بين الدولتين بأن تعالج كل الخلافات بينهما في القوات الخلفية بعيدا عن الإعلام، وعندما يصبح الخلاف علنيا هذا يعني أن الخلافات وصلت إلى مستوى لم يعد للبيت الأبيض طاقة على احتماله ولكن السؤال هل ستنتقم الإدارة الأميركية "لقلة الاحترام وإهانة الرئيس"؟ اعتقدنا أنها ستفعل منذ طرد جون كيري وهذا مشكوك فيه أيضا هذه المرة وعلى أعداء وخصوم إسرائيل التعلم والاستفادة من هذه الأزمة.
لقد كان الأكثر وضوحا وقلقا هو المتحدث باسم سفارة إسرائيل في باريس يارون غمبورغ حين كتب على "تويتر"، "إن ما يحدث لعلاقاتنا مع الولايات المتحدة هو فقدان صواب .. وجميع أعدائنا يشاهدوننا ويستخلصون العبر" ما أدى للتهديد بفصله من عمله .. علينا أن نستفيد ومن الممكن أن نستفيد .. ألم يكن من الممكن تقديم مشروعنا مرة أخرى لمجلس الأمن لنرى كيف ستستخدم الإدارة المهانة الفيتو؟ أو لنراها في هذا الوقت بالذات كيف ستتصرف ضدنا مثل الأسد وفي نفس الوقت مع إسرائيل مثل النعامة؟
أكرم عطا الله
15 شباط 2015
كاتب بصحيفة "الايام" الفلسطينية