ان ضيق مساحة قطاع غزة بالنسبة لعدد سكانه المليون و800 ألف الموزعين بنسبة 5000 نسمة/كلم، والتي تعد من اعلى الكثافات البشرية في العالم، هو السبب المباشر لازمات القطاع، حيث ان هذه الكثافة لا تقابلها موارد تكفي لاحتياجات الجميع، و70% من هذه الكثافة عبارة عن لاجئين فاقدين لأملاكهم ومواردهم الطبيعية، لذلك من المنطقي ان يتنازع سكان هذا القطاع المقيد الخاضع للاحتلال على الموارد، وليستقوي المتنازعون انتظموا داخل تنظيمات سياسية ذات ايديولوجيات وشعارات مختلفة، فأزمات اليوم المتمحورة حول قضية الرواتب اثبتت بشكل واضح ان الخلاف على الموارد هو أشد من الخلاف الأيديولوجي، وهنا لا بد لنا ان نعود للبحث في جذور المشكلة التي اوصلتنا الى هذا المأزق، فالواقع اليوم باختصار شديد هو كما اسلفت ضغط سكاني بدون موارد ولا معابر ولا موانئ جوية وبحرية ولا حرية حركة، والمورد الرئيسي الوحيد هو الرواتب المعتمدة بشكل اساسي على المساعدات والمنح فما الذي اوصلنا لذلك ؟
ان القيادة الفلسطينية عندما قررت القبول بانشاء سلطة الحكم الذاتي في ظل تلك المعطيات الديموغرافية، قبلت بذلك مقابل حرية حركة للأفراد والبضائع واعتبار قطاع غزة والضفة الغربية وحدة جغرافية واحدة ووجود مطار وميناء وعمق بحري كما هو وارد باتفاقية اوسلو المرحلية، وفي المقابل اشترطت اسرائيل عدم وجود أي سلاح في الشارع الفلسطيني غير سلاح السلطة الفلسطينية، وبذلك ان قبول القيادة الفلسطينية بممارسة حكم ذاتي كان على اساس مشروع متكامل لا ينتج عنه خلل كبير في الموارد كما هو اليوم، فلو تمت الامور حسب المشروع المتفق عليه كان سيعتمد السكان الفلسطينيين على اكثر من مورد غير الرواتب فمشروع الميناء وحده ممكن ان يوازي حجم الرواتب او اكثر كمورد مالي، والمطار والسياحة وحرية الحركة كلها موارد اقتصادية لو تمت لنزعت فتيل الصراع على راتب السلطة الفلسطينية الذي لم يتبقى من مورد سواه، ولكن هنا من يتحمل المسؤولية الى ما آلت اليه الامور ؟ هل هو الانتهاك الاسرائيلي للاتفاقات فقط ؟ ام عدم التزامنا بالاتفاق ايضا وسعي أطراف فلسطينية لتدميره ؟ فلنعود على سبيل المثال الى بنود اتفاق تشغيل ميناء غزة سنجد انه تم الاتفاق على البدء في بنائه في تفاهمات شرم الشيخ 7 ايلول 1999 وكان ذلك مما لنا في الاتفاقية وبنفس الوقت ما علينا في الاتفاقية هو التأكيد على الاستمرار بجمع الاسلحة "الغير مشروعة"، وهنا لا أريد ان ادخل بجدلية حق فصائل المقاومة بالتسلح من عدمه، ولكن أود ان اوضح بانه لا يمكن لسلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال ان تسير أمور الناس الاقتصادية وتفتح لهم المعابر والموانئ وتصرف رواتب وبنفس الوقت ان يكون لديها سلاح خارج اطار قرارها وقواها الامنية الرسمية، فمطالبة فصائل المقاومة (حماس، الجهاد) اليوم من الاحتلال الاسرائيلي ان يوافق على السماح لنا بإنشاء وتشغيل ميناء بحري وجوي، هو بكل وضوح عرض لوقف اعمال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال مقابل تشغيل الميناء والمطار، فمن غير المنطقي ان تطالب فصائل المقاومة ببناء مطار وبنفس الوقت ان تواصل اطلاق الصواريخ تجاه اسرائيل، وهنا نعود للمربع الأول الذي قبلت فيه القيادة الفلسطينية ببناء الموانئ مقابل وقف كافة اشكال العنف من كلا الطرفين، وبذلك نستنتج انه لا حل لنزع فتيل الصراع على الرواتب والموارد سوا بالقبول بوقف كافة اشكال العنف مقابل رفع قيود الاحتلال الاقتصادية والسير بمشروع تسوية سياسية سلمية مع الاحتلال لإنهائه، اما البديل الاخر هو الاستغناء عن الرواتب المشروطة أو حل منظومة الحكم الذاتي تحت الاحتلال من أساسها والانشغال بأعمال المقاومة المسلحة والبحث عن مصادر لتمويلها تبدو انها غير متاحة في الواقع الاقليمي والدولي في هذه الفترة على الأقل، وبالعودة الى الخيار الأول ليس مطلوب من جميع فصائل المقاومة السير بنفس مسار منظمة التحرير بنبذ العنف ولكن المطلوب فقط هو الامتثال للقرار السياسي الفلسطيني لا أكثر ولا أقل بدون ان تصور الفصائل نفسها على انها جسم تمثيلي فلسطيني موازي مطلوب منه مواقف سياسية رسمية، وهنا نعود لما جاء في وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني التي وافقت فيه جميع الفصائل على احترام التزامات منظمة التحرير السياسية وانتهاج المقاومة السلمية ضد الاحتلال في هذه المرحلة، وبذلك يتطلب من فصائل المقاومة ان تغلق جميع مواقعها العسكرية العلنية المكشوفة وتحويلها الى اندية يمكن لها ان تمارس فيها الانشطة الرياضية والثقافية وأنشطة الكشافة والفتوة وتدريبهم باستخدام الاسلحة الغير نارية وبنادق الضغط الهوائي والالكترونية وان تعود المقاومة العسكرية لحالتها الطبيعية المنطقية وهي المقاومة السرية، فلا يعقل ان تكون جيوش المقاومة هي نفسها جيوش استعراضات عسكرية علنية تحت اعين طائرات الاحتلال وقواته بدون أي ساتر او حماية سوا المصلحة المتبادلة بين الاحتلال ووجودها على الارض للممارسة الحكم الذاتي تحت سيادته، وتحسب علينا مقاومة مسلحة على اساسها يتذرع الاحتلال بحرماننا من أي حقوق!