خلص مقال لنا كنا قد كتبناه ونشرناه بعد أيام قلائل من العدوان الإسرائيلي على غزة صيف 2014م تحت عنوان : قراءة نقدية تقييمية أولية لمعركة العصف المأكول "بأن يكون هناك رؤية واضحة لعملية التفاوض مع الجانب الإسرائيلي، فإنجازات المقاومة يجب أن تترجم على الأرض والحذر من مؤامرات وكولسات المفاوضات، فهي معركة قد تكون أكثر شرسة نظرا لكثرة اللاعبين في ساحتها. وأن يحافظ الجانب الفلسطيني على وحدته ضمن أداء سياسي وإعلامي كفئ يستند على الخبرات المتراكمة، والاستعانة بذوي المعرفة في الجواب المختلفة السياسية والأمنية والاقتصادية والقانونية". ويبدو أن حدسنا وخشيتنا قد أصابت غمد السيف. حيث كان يفترض وفق تفاهمات الورقة المصرية والتي تم الاتفاق على التهدئة بموجب بنودها أن يكون هناك مرحلتين من التعاطي مع الوضع بعد توقف القتال أي العدوان في المفهوم الفلسطيني. تتضمن المرحلة الأولى فتح المعابر ورفع الحصار، وذلك كما يبدو ضمن نطاق تفاهمات العدوان الإسرائيلي في نوفمبر 2012م. ثم ننتقل إلى المرحلة الثانية التفاوضية والتي تتخذ شكل أكثر استقلالية لقطاع غزة بحيث يمكن مناقشة إقامة مطار وميناء لغزة لربطها دوليا بعيدا عن الاحتكام للمعبر المصري الفلسطيني أو المعابر المصرية الإسرائيلية أو المعابر الفلسطينية الإسرائيلية. ويعد ذلك إنجازا كبيرا على صعيد كسر الحصار والذي كان أحد أهداف حركة حماس وجناحها العسكري المقاوم. فقد عانى غزة من حصار شديد منذ 2007م، ترك مردوده على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. واعتبرت حركة حماس أن إنهاء الحصار هو إنجاز وطني يجب أن يتوج بفعل العمل المقاوم. ولذلك رفضت حركة حماس الورقة المصرية في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي والتي كانت تستند على تفاهمات 2012م بخصوص الحصار والمعابر. وفضلت حركة حماس الصمود والمقاومة من أجل تحقيق اختراق في التراكم الإنجازي السياسي والمقاوم. ودفع الشعب في غزة ثمن موقف حركة حماس التي رفضت الورقة المصرية كما أسلفنا، وبالتالي دخل قطاع غزة في مرحلة عدوانية جديدة من قبل الطرف الإسرائيلي تمثل في الاجتياح البري. وتضاعف عدد الشهداء وعدد المنازل المدمرة بشكل كبير مع دخول مرحلة الاجتياح البري وتكثيف القصف الجوي والبحري. ولا نرغب هنا في الدخول في متاهات الإحصاءات في الأسبوع الأول للعدوان وما تمخض من إحصاءات لاحقة يبرز أن الشعب الفلسطيني قد دفع الثمن فادحا توازياً من موقف حركة حماس الذي استند على تكتيك الصمود، وجر الجيش الإسرائيلي إلى اشتباك بري يمكن من خلاله حركة حماس أن تكسب في يدها أوراق جديدة تعزز موقفها التفاوضي وبالتالي يكون الوصول للتهدئة ضمن شروط جديدة تتجاوز تفاهمات عدوان 2012م، وهذا سيشكل رصيد إضافي لحركة حماس على المستويات السياسية والعسكرية والشعبية.
ومع الأداء العسكري المقاوم لكتائب عز الدين القسام، وهو أداء لا يمكن وصفه سوى بالرائع في ظل تفاوت معطيات القوى والظروف، وكان الأعظم من هذا الإنجاز هو الصمود الشعبي، والاحتضان الشعبي للمقاومة، ولكن الحصاد لم يكن بحجم الغرس والزراعة وهذه يعد إشكالية عانت منه الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بداية القرن العشرين. فالشعب يقاوم ويصمد ويقارع ويقدم الغالي والنفيس ولكن الحصاد يكون ضئيلاً إن لم عكسياً في بعض الأحيان. ولذلك حاولت حركة حماس أن تناور خلال فترة العدوان للوصول إلى شروط مشرفة، وتراكم إنجازي من أجل تحقيق التهدئة. وحاولت التحليق في فضاءات قطرية وتركية، لفتح نافذة أخرى تتجاوز المبادرة المصرية. ولكن للأسف وضمن معطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي لم تنجح حركة حماس في هذه المساعي. وكان واضحاً أن هناك إطار اتفاق مصري إسرائيلي على عدم إعطاء حركة حماس أي إنجازات في هذا العدوان. حتى أننا نجد من الغرابة أن يحدث الانسجام المصري الإسرائيلي والتناغم أكثر من الموقف الأمريكي الإسرائيلي، حيث إن إسرائيل رفضت مبادرة وزير الخارجية الأمريكية كيري مقابل التمسك بالورقة المصرية. ولا نرغب نحن هنا في الدخول في تفاصيل الموقف المصري ولكن يمكن القول وبلا شك أن الموقف المصري تجاه حركة حماس كان في استرتيجيته وتكتيكه أكثر عداء من الموقف الإسرائيلي. حيث ينظر النظام المصري لحركة حماس كمنظمة إرهابية وهو ما تم ترجمته في قرار قضائي صدر في مصر. وبالتالي يرى النظام المصري أن إي إنجاز لحركة حماس يمكن إن يشكل حالة تراكمية يمكن أن تستنهض حركة الإخوان المسلمين في مصر. وحيث إن النظام المصري قد قرر استخدام الخيار الأمني ضد حركة الإخوان المسلمين، والعمل على إقصائها من النظام السياسي المصري فإن محاصرة حركة حماس ومنع تحقيق إلى إنجاز من قبلها هو في صلب سياسة النظام المصري القائم. ومن هنا تقاطعت المصالح الإسرائيلية مع المصالح المصرية ضد حركة حماس وهو موقف تقارب كما قلنا لدرجة حققت تناغم وانسجام أكبر من الموقف الأمريكي.
وقد أدركت حركة حماس بعد مناوراتها السياسية خلال العدوان صعوبة الخروج على الورقة المصرية، وأن النظام الدولي قد وضع ملف العدوان في غزة في حاضن النظام المصري، ولم تستطع قطر أو تركيا من تحقيق اختراق أو لعب دور مركزي في هذه الملف. ولذلك قبلت حركة حماس التهدئة مقابل أن تكون التهدئة والمفاوضات المرتبطة بها على مرحلتين. ومن الصواب القول إن حركة حماس قد حققت إنجازا هنا تمثل في فصل قضية الأسرى عن التهدئة أي عدم ربط تحقيق التهدئة بتسليم حركة حماس ما لديها من أسرى أو جثث _ وهو موضوع مازال يكتنفه الغموض_، ومن هنا أبقت حركة حماس في يدها ورقة من أوراق الضغط على الجانب الإسرائيلي مستقبلاً، ولكن في المقابل فإن حماس قد واجهت إخفاقاً شديداً في إدارة المفاوضات، وربما اضطرارها بسبب التصعيد الإسرائيلي الأخير ضد الأبراج السكنية مثل برج الظافر والإيطالي وغيرها وهي سياسة غير مسبوقة في الوحشية والعقاب الجماعي من الجانب الإسرائيلي. ولذلك وبالرغم من محاولة وضع جدول زمني للمرحلة الثانية من المفاوضات فإن هذه المرحلة لم تنجز. وللأسف عندما تم الحديث عن طلب استئناف المفاوضات في نوفمبر 2014م تم ربط الموضوع في تصريحات إعلامية مصرية وفلسطينية سلطوية بالوضع الأمني في سيناء. ومن الجديد بالذكر أن هذا قد يكون تهرب من الجانبين المصري والإسرائيلي من استحقاقات المرحلة الثانية. والإشكالية في ربط الموضوع زمنيا بملف متحرك ومتوتر دوما وهو سيناء. فمن المعروف أن جبهة سيناء بين الأصوليين الإسلاميين والنظام المصري هي جبهة مفتوحة وبالتالي التعويل على هدوئها من أجل معالجة ملف فلسطيني شائك هو عملية رهن محفوف بالمغامرة ويجعل الموضوع قابل للتأجيل والتلكؤ. ولكن يبدو أن هناك اتفاقاً مصرياً إسرائيلياً على عدم الدخول في المرحلة الثانية من مفاوضات الورقة المصرية بهدف قطع الطريق على حركة حماس لإنجاز أي نجاحات سياسية وشعبية. وهذا يشير إلى أن حركة حماس والتي أبدت إبداعاً في الأداء العسكري لا يزال تنقصها الخبرة والحنكة في المجال السياسي. وهذا يؤكد ما حذرنا منه في بداية المقال من أن النضال السياسي لا يقل خطورة عن النضال العسكري كون المواجهة العسكرية تكون واضحة الأطراف، وواضحة في نطاقها إلى حد ما على الصعيد الزمني والجغرافي ولكن المواجهة السياسية تكون مفتوحة، وكل دهاليز السياسة الدولية والتحالفات والتجاذبات هي مجال واسع ورحب للمناورة السياسية. ولذلك على حركة حماس أن تقوم بمراجعة نقدية لأدائها في الحرب على المستوى السياسي والعسكري، فلا يجب أن نبقى أسرى لشعارات وخطابات ديماغوجية بدون مراجعة نقدية تحدد أين أصبنا وأين أخفقنا، وأن نقوم بعملية تشخيصية علمية دقيقة لجوانب القوة والضعف في كل أداء قوي أو أداء ضعيف. وبالتالي توفر الجرأة للقول بأن الإنجاز العسكري والمقاوم لم يترجم لإنجاز سياسي. وأن حركة حماس وجناحها العسكري قد دفع الثمن باهظاً مقابل الوصول لصيغة التفاهمات ثنائية المرحلية ولكن ما حدث على أرض الواقع من الإبقاء فقط على المرحلة الأولى من تفاهمات التهدئة يشكل إخفاقاً كبيراً على صعيد الأداء السياسي. وهذا كما أشرنا يتطلب من حركة حماس وضع استراتيجية سياسية ورؤية سياسية واضحة تأخذ بعين الاعتبار المعطيات المحلية والإقليمية والدولية. وأن توازن في أدائها السياسي بين خطابها المقاوم وبين مناوراتها وأدائها السياسي. فكما يقول المثل الشعبي " الأمور بخواتيمها"، ويبدو أن الثمن الذي تم دفعه في مقابل مناورات حركة حماس خلال العدوان على المستوى السياسي كان كبيراً، وأن عظمة عملية الغرس لم تتكل بعملية نجاح عملية الحصد. وهذا يعود بالتأكيد إلى عوامل ذاتية وموضوعية. فصهيل خطاب وشعارات حركة حماس بعد العدوان على غزة حول الانتصار للأسف لم يجد ما يدعمه على أرض الواقع. فواقع قطاع غزة على جميع الصعد قد دخل في نفق مظلم لا يتناسب مع شموع الصمود التي تم غرسها خلال العدوان. وما هو قائم اليوم على أرض الواقع لا يمكن أن نطلق عليه سوى " الحصادالمر".