إسرائيل ... من عدم اليقين إلى القناعة بـ " دولة اللاأمة"

بقلم: ماجد الشيخ

شكل استيطان المهاجرين اليهود إلى فلسطين المحتلة، البقرة المقدسة للحركة الصهيونية، وعمل على خلق نوع من أنماط العمل الفردي والجماعي، بحراسة واحدة من أشد النزعات العسكرية الإسبرطية وتطرفها، على أمل أن تتحول "الدولة اليهودية" إلى "دولة أمة"، إلا أن المتابع لتطورات ما يجري في كيان الاحتلال الاستيطاني في فلسطين، لا تعميه الحقائق التي يعترف بها حتى بعض الصهاينة، وليس بعض اليهود فقط، وهي تقود إلى "عدم اليقين" ونقص فادح في "القناعة الصهيونية" بأن إسرائيل لم تتحول بعد إلى "دولة يهودية"، ما يفتح الباب واسعاً على نظرية تعاكس نظرية الدولة/الأمة، الأمر الذي يباعد بين إسرائيل كدولة يهودية، وبين كونها "دولة أمة يهودية"، حتى أن العديد من المحللين والسياسيين في إسرائيل، كما هي الآن، يرفضون إمكانية تحولها إلى "دولة ثنائية القومية"، فما هي هذه "الدولة" إن لم تكن في الحقيقة والواقع، دولة استيطان عنصري فاشي، الاحتلال رائدها، والاستيطان شكل "طلائعها" الذين يعتز بها، قادتها القدماء والجدد على حد سواء.

خلال شهور قليلة من عام 2014، ارتفعت ميزانية دائرة الاستيطان الحكومية الإسرائيلية بنسبة 600 في المئة، وتم رصد الغالبية الساحقة من هذه الميزانية للمستوطنات في الضفة الغربية، الأمر الذي أثار غضب سكان منطقة جنوب البلاد، حيث تماطل الحكومة في الاستجابة إلى مطالبهم بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم خلال الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة. وذكر تقرير لصحيفة "كلكليست" الاقتصادية التابعة لـ "يديعوت أحرونوت"، أن ميزانية دائرة الاستيطان في العام الماضي بدأت بمبلغ 58 مليون شاقل، وارتفعت ليصبح حجمها الآن 404 ملايين شاقل.

وتواكب ارتفاع ميزانية الاستيطان، مع ارتفاع عدد المستوطنين في الضفة الغربية عام 2014، ليصل إلى 389.285 مستوطناً، بزيادة قدرها 4 في المئة، وفق الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية الإسرائيلية. وكان نحو 375 ألف مستوطن يعيشون في بداية عام 2014 في مناطق (C) الضفة الغربية، وتشكل هذه المناطق حوالى ستين بالمئة من أراضي الضفة الغربية، وتخضع لسيطرة إسرائيل التامة، وتوجد في هذه المناطق غالبية المستوطنات التي يعتبرها المجتمع الدولي غير شرعية. وهذا العدد من المستوطنين يمثل زيادة قدرها 4.2 في المئة مقارنة بعام 2013. ويعيش نحو 300 ألف فلسطيني في منطقة (C) وفق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا).

وتعد مستوطنتا موديعين عيليت، غرب رام الله (64.862 مستوطناً) وبيتار عيليت، جنوب القدس (49.580 مستوطناً) الأكثر كثافة سكانية مع سكان من الحريديم المتطرفين، بعدها تأتي مستوطنة معاليه أدوميم شرق القدس في المركز الثالث (39.973 مستوطناً). ولم تتضمن هذه الإحصاءات الإسرائيلية 200 ألف إسرائيلي يعيشون في عشرة أحياء استيطانية في القدس الشرقية المحتلة منذ عام 1967، ومئات الآلاف يعيشون في القدس الغربية التي وفق اتفاق أوسلو تتبع لما يسمى السيادة الإسرائيلية.

استيطان .. انتخابي!

وفي خضم التحضير للانتخابات في السابع عشر من آذار(مارس) المقبل، كشفت مصادر إسرائيلية أن وزير الأمن، موشي يعلون، أصدر تعليمات خلال كانون أول(ديسمبر) الماضي، بتنفيذ مشاريع استيطانية ضخمة في الضفة الغربية، تشمل شق شوارع وإقامة مبان عامة في العديد من المستوطنات، ويأتي ذلك بعد يوم واحد من قرار يعلون إخلاء مناطق عسكرية لأغراض استيطانية. وقالت إذاعة الجيش الإسرائيلي، إن يعلون وبإيعاز من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أصدر تعليمات بدفع مخططات لشق شوارع استيطانية منها: التفافي حوارة، والتفافي العروب، وبناء مبان عامة في العديد من مستوطنات الضفة الغربية.

وأشارت إلى أن هذه التعليمات جاءت إثر اجتماع عقد بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وقادة المستوطنات الذين طالبوا بوقف "تجميد الاستيطان" والدفع بمخططات جديدة. كما أن هذه التعليمات جاءت بعد ضغوط من قيادة الحركة الاستيطانية، علاوة على أن هذه القرارات غير منفصلة عن الانتخابات الداخلية لليكود، حيث يتمتع قادة المستوطنين بتأثير واسع على الأعضاء الذين عادة ما يقررون قائمة الليكود الانتخابية.

بالتوازي مع ذلك، فقد كشف النقاب عن أن يعلون أمر بنقل قاعدتين عسكريتين في الضفة الغربية إلى موقعين آخرين لاستخدام الأراضي المقامة عليها لتوسيع المستوطنات، وهي سياسة باتت سلطات الاحتلال تستخدمها على نحو واسع.

استتباعاً لموقف وزير الأمن وحكومته من الاستيطان، أوعز يعلون للإدارة المدنية للاحتلال، بالاعتراف بالبؤرة الاستيطانية العشوائية "إيل متان" في محافظة سلفيت بالضفة الغربية، ومنحها "مكانة قانونية" بموجب قانون الاحتلال، ودفع مخططات بناء في المستوطنة، وتوسيع الطريق المؤدي إليها. ما يعني شرعنة سلب المستوطنين لأراضي قرية دير استيا الفلسطينية، وتحويل البؤرة الاستيطانية العشوائية إلى مستوطنة "قانونية" بموجب قوانين الاحتلال.

وكانت سلطات الاحتلال قررت قبل نحو شهرين مصادرة 100 دونم من الأراضي الفلسطينية في وادي قانا غرب بلدة دير استيا، التي كانت مصنفة احتلالياً كـ "محمية طبيعية"، وذلك بغرض ضمها للبؤرة المذكورة تمهيداً لشرعنتها، وإعلانها المستوطنة رقم 24 في محافظة سلفيت. وقد أقيمت البؤرة الاستيطانية عام 2000 بالقرب من المحمية الطبيعية المسماة "ناحال كناه" في وادي قانا وفق تسمية الاحتلال، ومنعت سلطات الاحتلال مالكي الأراضي من مزارعي دير استيا من فلاحة هذه المنطقة، بدعوى أنها تابعة لسلطة المحميات الطبيعية. في حين يعمل المجلس الإقليمي الاستيطاني "شومرون" على ضم المستوطنة الجديدة إلى مناطق نفوذه، فيما تدفع بخطة "تطوير سياحية" لوادي قانا، تتضمن شق طرق تربط بين المستوطنات والبؤر الاستيطانية في المنطقة، بزعم حماية الطبيعة، أي مصادرة وسرقة وادي قانا في شكل كلي.

على صعيد تشريع الاستيطان وسرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية، فقد كشف تحقيق إعلامي إسرائيلي مؤخراً، أن وزير الأمن الأسبق شاؤول موفاز، ومستشار وزير الأمن الحالي، ساعدا في إنجاز صفقة بادر إليها مزورون لانتزاع ملكية 1600 دونم من أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية. وأشار التحقيق إلى أن عضواً في الليكود سبق أن أدين بعمليات تزوير، يعمل على إنجاز الصفقة مع سمسار سبق وأن أدين في السابق بعمليات تزوير، ومع كاتب عدل كان قد اعترف بالماضي بأنه منح تصديقاً غير قانوني لصفقات، وذلك بهدف الاستيلاء على الـ 1600 دونم المشار إليها، بمساعدة من مستشار وزير الأمن الحالي، موشي يعالون، ووزير الأمن الأسبق موفاز.

هذا هو ديدن إسرائيل، كدولة للمستوطنين، مدججة بالأسلحة، وبإسبرطية غير معهودة في العصر الحديث، حتى بات نفي الدولة عنها يقترن بنفي الأمة، فلا هي "الدولة الواحدة" لكل مواطنيها، على ما يأمل البعض لدى هذا الجانب أو ذاك، ولا هي بصلفها وغرورها واستعلائها يمكن لها أن تتحول إلى "دولة ثنائية"، فالصهيونية القائمة اليوم في فلسطين هي بمثابة "دولة اللاأمة"، كيان إسبرطي لمستوطنين من كل الأجناس والجنسيات والهويات غير المتماثلة.

ماجد الشيخ

كاتب فلسطيني

صحيفة" الحياة" اللندنية