يزداد المشهد السياسي العربي تعقيداً، يوماً بعد يوم، في ظل استشراس قوى الإرهاب وبشاعة جرائمها المرتكبة بإسم الدين، وتنامي مؤيديها والمتعاطفين معها والمبررين أفعالها أو الباحثين عن أعذار لها، أو تحميل أفعالها للمؤامرة الخارجية التي تستهدف الدين الإسلامي والدول والشعوب العربية والإسلامية.
إن هذه الظاهرة التي باتت تضرب المجتمعات العربية والإسلامية هي من أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين وفي مقدمتهم العرب، إن مواجهة هذه الظاهرة تقتضي البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ظهورها، وتفشيها بهذا الشكل الخطير، وعدم الركون إلى إحالتها إلى المؤامرة فقط التي تستهدف الأمة ودينها الحنيف ...!!
لأننا لو سلمنا بوجود المؤامرة، ما كان لها أن تنجح وتحقق أهدافها دون وجود التربة والمناخ المناسبين لها في الثقافة والعقلية العربية السائدة، وتوفر الأدوات التي تسهل توظيفها واستخدامها لتحقق أغراضها، إذن الأصل في ذلك هو الجاهزية والإستعدادية المتاحة في الوسط العربي والإسلامي الثقافي والإجتماعي والسياسي والإقتصادي الذي أتاح للمؤامرة أن تتحول إلى ظاهرة محلية تجد من يؤمن بها ويغذيها ويرعاها، حتى باتت كالغول ينشر مخاوفه وأراجيفه في كل الأنحاء.
لابد من مواجهة هذه الظاهرة على مستوى الجذور قبل الفروع والأغصان، مهما تعددت المسميات والأشكال التي تتخذها من مكان لآخر، فجميعها تنهل من منهل فكري واحد، ومعين واحد وتدعي أنها تمثل الدين الإسلامي، والدين الحنيف منها براء، براءة الذئب من دم يوسف...!
تلك قوى ظلامية تحاول أن تحتكر الدين وفهمه، لأغراض السيطرة والإستحواذ، وفرض ديكتاتورية خاصة بإسم الدين، وهي أخطر أشكال الديكتاتورية التي عرفتها البشرية، وهي ((الديكتاتورية بإسم الدين))، حيث تتم فيها مصادرة الآخر ورأيه ودوره، ليس بإسم الفرد، أو الحزب، أو الجماعة، وإنما بإسم الله وبإسم الدين، والله والدين من ذلك براء، وقد أكد على ذلك المفكر العربي والمسلم ابن خلدون قبل ثمانية قرون، ونحن اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من البعثة الإسلامية، يخرج من بيننا من يسعى لفرض تسلطه وتحكمه في نموذج الحياة والحكم وفق هواه، ووفق تفسيره الخاص للدين، وفرضه على المسلم وغير المسلم في آن واحد، مستخدماً سلاح التكفير والتفسيق والتفجير، في وجه كل من يخالفه الرأي أو التفسير، هذا الفهم وهذا التفسير الأحادي الإتجاه، هو الذي أتاح لهذه الظاهرة المقيتة والمميتة والمدمرة أن تنمو وتترعرع في الوسط العربي، وأتاح لها وللمؤامرة التي تستهدف تشويه الدين وتدمير المجتمعات العربية والإسلامية وهدم الدولة الوطنية المدنية، وأن تحقق أهدافها وأغراضها، وتحرف إتجاه الدول والشعوب العربية عن أهدافها الحقيقية، في التطور والنمو والبناء، وتحقيق المشاركة السياسية، وإنضاج مفهوم الوطن والمواطنة، والدولة المدنية الحديثة، الذي بغيره لا مستقبل زاهر للشعوب والدول، ولا مستقبل لثقافتها وحضارتها وعقيدتها.
إن استمرار العقل العربي في ممارسة المكابرة عن البحث عن الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، وتصديره لأزماته وإختلالاته وغيابه، وتغييبه عن مواجهة واقعه وقراءته قراءة عقلية فاحصة ليضع يده على مكامن الخلل وعلاجها بإجتثاث كافة العوامل والظروف التي أتاحت المناخ المناسب لنمو هذه الظواهر الإرهابية الشاذة، أفسح المجال واسعاً لنجاح المؤامرة في تفكيك هذه الدول والمجتمعات.
إن هذه الظاهرة ستزداد تفاقماً يوماً بعد يوم، مالم يتم وضع حد لها من خلال وضع حدٍ فاصل ما بين رجل الدولة، والوطن والمواطنة، وما بين رجل الدين والمذهب والطائفة، فالوطن لجميع ساكنيه، والمواطنة حق للجميع، بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو المذهب الذي يدين به هذا الفرد أو ذاك، ورجل الدولة الرشيد الذي يرعى الوطن والمواطن ويوفر له الأمن والأمان والنمو والنماء والعدل والمساواة ويضمن حرية الرأي والتعبير والإعتقاد هو الأحق بأن يطاع وأن يفرض سلطانه على الجميع ممثلاً للدولة والمجتمع والدين في آن واحد، وهو ما يحقق المجتمع الناجح وبالتالي الدولة الناجحة.
بقلم/ د. عبد الرحيم محمود جاموس