قطاع غزة .. وُحلم الأمن المفقود:

بقلم: د. مصطفى اللداوي

يمكن القول بلا تحيز أن ملف الأمن قد يكون من أهم إنجازات حركة حماس في حكم قطاع غزة خلال السنوات السابقة. وقد تغنت حماس وأجهزة حكمها بما فيها جناحها العسكري بهذا الإنجاز. كما تغنى الشارع الغزي بذلك على اختلاف مشاربه بهذا الإنجاز، وغفر الكثيرون ممن يختلفوا مع حركة حماس عدم تحقيق إنجازات أخرى في الملفات الاقتصادية والمالية، ووجدوا لحركة حماس الأعذار، وعلقوا ذلك على شماعة الاحتلال والحصار. وثمن الكثيرون الإجراءات التي قامت خلالها أجهزة حماس الأمنية من تقويض لمظاهر البلطجة التي مارستها عائلات معينة خلال السنوات قبل عام 2006م، والذي كانت تتقاطع مصالحها وزعاماتها مع أجهزة السلطة خلال حكم حركة فتح قبل 2006م. حيث أن بعض هذه العائلات قد بنت نظام بلطجتها على كون الكثير من أبنائها كانوا في الأجهزة الأمنية الفلسطينية آنذاك وبالتالي حدث نحو من التزاوج بين هذه العائلات وبين العديد من الأجهزة الأمنية. والحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن أجهزة حماس الأمنية قد نجحت في تقويض بلطجة هذه العائلات. وبالتالي جنبت المجتمع الغزي الكثير ممن ممارسات البلطجة والإخلال بالأمن الذي كان يقوم بها أفراد هذه العائلات. وليس نحن هنا بصدد مناقشة أهداف حركة حماس وأجهزتها من ذلك، فلا يمكن القول إن الهدف من ذلك كان فقط فرض الأمن والنظام خدمة للشعب، بل كانت أجهزة حكم حماس تهدف من ذلك لتحقيق أهداف أخرى تكمن في فرض نفسها بقوة كأجهزة حاكمة في غزة لاسيما بعد الانقلاب العسكري (أو الحسم العسكري كما تطلق عليه حركة حماس) في حزيران 2007، وبالتالي الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الوقوف في وجه نظام الحكم الجديد، كما هدفت أجهزة حركة حماس إلى تقويض قوة بعض العائلات التي كانت ترتبط بحركة فتح وأجهزتها الأمنية، وفوق ذلك فإن ما قامت به الأجهزة الأمنية لنظام حماس لا يخلو من حالة استعراضية يتم من خلالها ترويع الشارع الفلسطيني في غزة كإجراء وقائي يهدف إلى توصيل رسالة لكل من تسول له العبث بالوضع القائم.
ولم تكتف الأجهزة الأمنية في مواجهة العائلات التي أبرز بعض أفرادها حالة تمردية بل واجهت حركات الإسلام السياسي السلفية، ولم تتوان أجهزة حركة حماس على مهاجمة واقتحام حتى بيوت الله في سبيل القضاء على أي نزعة تمردية، وخير مثال على ذلك ما حدث مع جماعة الدكتور عبد اللطيف موسى في مسجد ابن تيمية في رفح عندما حاول أن يعلن إقامة إمارة سلفية إسلامية متحدياً بذلك نظام الحكم القائم في غزة بحكم الأمر الواقع. ولا نخفي القول أن قطاع غزة قد شهد حالة من فرض النظام والانضباط خلال السنوات السابقة. وشكلت الأجهزة الأمنية لنظام حماس حالة من الانضباط يضرب به المثل على صعيد المعاملة ومتابعة الأمور اليومية للمواطنين. وفوق ذلك مظاهر الانضباطية في علاقات هذه الأجهزة بعضها ببعض حيث لم يشهد رجل الشارع مظاهر صراع نفوذ وهيمنة بين هذه الأجهزة كما كان الوضع خلال حكم حركة فتح حيث كان الصراع بارزا آنذاك بين قيادة وعناصر جهاز الأمن الوقائي وبين الاستخبارات العسكرية، أو مشاحنات تسمع هنا وهناك بين قادة وعناصر أجهزة أخرى. فقد شهدت أجهزة نظام حماس مركزية في اتخاذ القرار وتنفيذه وبالتالي تم إعطاء نموذج جيد لعلاقات هذه الأجهزة بعضها ببعض. كما قدمت نموذجاً رائعا ليس في فترة السلم بل في فترة الحرب والعدوان. وبالرغم من العديد من التجاوزات التي حدثت خلال الحروب الثلاثة على قطاع غزة في السنوات السابقة فإن هذه الأجهزة قد أثبتت نجاعة كبيرة في حماية الجبهة الداخلية.
ومع إدراكنا إن فرض النظام والأمن يعتمد بالأساس على سيادة القانون وليس فقط على عنصر الخوف والتخويف، وأن الأصل في الأجهزة الأمنية أن تكون في خدمة الشعب وليس فصيل من الفصائل، فالعقيدة الأمنية يجب أن تكون عقيدة الوطن وليس الفصيل أي كان لأن الفصيل وحتى الأجهزة الأمنية فقد أقيمت من أجل وطن. وأن الأجهزة الأمنية يجب ألا تخضع للصراع الفصائلي بل هي أجهزة عقيدتها الأمنية تنصب في المشروع الوطني التحرري، وفي الحفاظ على المكتسبات الوطنية. وبرغم كل الإشكاليات السابقة فإن أمن المواطن هو رأس مال مشروعنا الوطني التحرري وهو جزء من صموده وبقاءه على أرضه. فحيث أننا غير قادرين على تحقيق أهداف تحررية وإعادة شعبنا إلى قراه الأصلية وهذا يعود لعوامل ذاتية وموضوعية خارج سياق تناول هذا المقال فإن الحفاظ على أمن المواطن وتعزيز صموده على أرض الوطن هي أكثر الأولويات المطروحة على أرض الواقع.
ولذلك فإن ما يشهده قطاع غزة منذ تشكيل حكومة التوافق الوطني من تفجيرات داخليه طالت العديد منها منازل قيادات في حركة فتح، وبعضها طال مؤسسات أجنبية مثل المركز الثقافي الفرنسي، والبعض الأخر طال مؤسسات تعليمية مثل فرع جامعة القدس المفتوحة حسب ما ذكر من أنباء، بل إن بعضها قد طال عناصر محسوبة على حركة حماس مما أوجد حالة من القلق في المجتمع الغزي لاسيما وأن الكثير من هذه الحالات لم يتم الكشف عن القائمين خلفها. وهذا لا يتناسب في العقل الغزي مع ما عرف عن أجهزة حركة حماس في السنوات السابقة من كفاءة في العمل. مما يفتح الطريق للعديد من التساؤلات حول الغرض من هذه التفجيرات والغرض من التقاعس عن كشف من يقف خلفها. وما هي الرسائل الأمنية والسياسية وراء هذه الحالة من عدم الأمن بالرغم من تصريحات العديد من قادة حماس ووزراءها السابقين عن توفر الأمن في غزة أكثر من الضفة الغربية وهي التصريحات التي جاءت على لسان وزير العدل السابق الأستاذ فرج الغول في صحيفة دنيا الوطن بتاريخ 17/2/2015م. وهذا يدفعنا للقول:
- هل تهدف حركة حماس عبر أجهزتها الأمنية توصيل رسالة سياسية مفادها أنه لا يمكن أن يتحقق الأمن في غزة إلا ببقاء الأجهزة الأمنية في يد حركة حماس، وأن أي محاولة للنيل من هذه الإنجاز سوف يكون على حساب أمن المواطن في غزة. وأن ما يتم الحديث عنه من تسليم المعابر من قبل عناصر أجهزة حماس لحرس الرئاسة الفلسطينية وما يتم الحديث بشأنه عن نقاط 444، و555 الحدودية، وخلافات الطرفين حول هذا الملف. وبالتالي يتم التسليم لحركة حماس بخصوص الملف الأمني، وتبقى السيطرة على المعابر من قبل أمن الرئاسة سيطرة شكلية. وبقاء السيطرة في غزة في يد وكيل وزارة الداخلية مع إشراف شكلي من قبل وزير الداخلية (رامي الحمد الله).
- محاولة إحراج حكومة التوافق الوطني من أجل دفعها للتفاعل أكثر مع الوضع في قطاع غزة. وزيادة التنسيق بين مجلس الوزراء الفلسطيني في الضفة الغربية ووكلاء الوزارات في غزة، وبالتالي إجبار مجلس الوزراء الفلسطيني على التعامل بواقعية مع سيطرة حركة حماس على جميع هياكل الوزارات لاسيما وكلاء الوزراء وبالتالي نصل إلى حالة من تقاسم السلطة والعمل الوظيفي والسياسي.
- محاولة الضغط على حكومة التوافق الوطني لدفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين في حكومة غزة السابقة. فمن الناحية الشكلية فإن قطاع غزة الآن هو جزء من السلطة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي فإن سوء الأوضاع الأمنية سوف تشكل حالة إحراج لأداء حكومة التوافق الوطني، وتوجيه الاتهامات لرئيس الوزراء الفلسطيني بصفته وزير للداخلية بعدم القيام بواجبه. ويعني انخراطه في أداء مهامه وجوب توفير المرتبات والميزانية التشغيلية لوزارة الداخلية بأجهزتها. وحيث إن وزارة الداخلية في غزة تعاني من نقص في ميزانيتها التشغيلية فإن أداء الأجهزة لا يمكن أن يكون على الوجه المطلوب. كما أن عدم وجود مرتبات لكوادر وعناصر الأجهزة الأمنية يفقدهم الرغبة في العمل. ويصبح المثل الدارج " اشتغل على قدر الراتب"، وحيث أنه لا يوجد هناك راتب فلا رغبه أو دافعية للعمل، ولا دافعية للحفاظ على المواظبة.
- قد يكون ما يحدث في غزة رسالة سياسية من حركة حماس للمحيط وهو إسرائيل ومصر والمجتمع الدولي الذي يرغب بإقصاء حركة حماس عن المشهد السياسي بأنها القادرة على حفظ النظام في غزة وأن محاولة النيل منها يفتح قطاع غزة أمام سيناريوهات قاتمة من انتشار الفوضى في غزة وسيطرة مجموعات مسلحة سلفية وغير سلفية، وأن على المجتمع الدولي أن يتعامل مع حركة حماس ويسلم بحكمها في غزة.
- قد يكون الهدف من حدوث هذه التفجيرات والتلكؤ في الكشف عمن يقف خلفها محاولة من حركة حماس لضرب أقطاب حركة فتح بعضهم ببعض وذلك بهدف إضعاف حركة فتح. ولا يخفى على أحد ما تشهده حركة فتح من صراع بين معسكرين مختلفين. وأن إضعاف حركة فتح يصب في مصلحة حركة حماس كحركة سياسية منافسة.
وفي النهاية يتوجب القول إن أمن المواطن الفلسطيني يجب ألا يوظف في تجاذبات فصائلية سياسية، فيكفي ما يعاني منه شعبنا من حصار وأوضاع اقتصادية صعبه، ويكفي ما يعاني من شعبنا من تلكؤ في عملية إعادة الإعمار، ويكفي ما يعاني منه شعبنا من ويلات ثلاثة حروب في سبع سنوات، ويكفي ما يعاني منه شعبنا من انحراف وتشوه في مشروعه الوطني، ويكفي ما يعاني منه شعبنا من إجراءات إسرائيلية في تهويد مقدساته ... الخ. فأمام كل ذلك يجب عدم العبث بأمن المواطن وإضعاف صموده على أرضه أيا كانت الذرائع والمبررات. وعلى حركة حماس وأجهزتها الأمنية أن تبقى على الصورة المشرقة لإنجازاتها الأمنية التي تغنت بها طيلة الفترة السابقة. ويجب عدم توظيف أمن المواطن في مناكفات سياسية وصراعات حزبية.
بقلم أ.د. خالد محمد صافي