تعبر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى عامها السابع والأربعين، في ظل استحقاقات سياسية شتى على كافة المستويات في معارك الدفاع عن سياسة السلاح وسلاح السياسة، والذي بدى واضحاً في عدوان صيف 2014 على قطاع غزة، حينما رفضت الجبهة المقايضة على سلاح المقاومة مقابل رفع الحصار ووقف العدوان الإسرائيلي على غزة، في المقابل أصرت على الوفد الفلسطيني الموحد في مفاوضات وقف العدوان وحماية المدنيين العزل الذي استمر لـ51 يوماً استشهد خلاله 2200 مواطن وجرح أكثر من عشرة ألاف آخرين إضافة إلى تدمير عشرات الآلاف من المنازل والمصانع وممتلكات المواطنين والبنية التحتية إضافة إلى بث الرعب والخوف في صفوف المواطنين.
إن الفلسطينيين يقفون اليوم أمام مفترق طرق بعد عدوان الاحتلال على قطاع غزة في صيف 2014، في ظل استمرار الانقسام وتعطيل عمل حكومة التوافق الوطني من القيام بمهامها في قطاع غزة ومواصلة حركة حماس قبضتها الأمنية في القطاع التي تحول من ممارسة الحكومة الفلسطينية بسط سيطرتها وتوحيد مؤسسات السلطة الفلسطينية وحل مشاكل غزة بما فيها الكهرباء وغاز الطهي والمياه والبنية التحتية والموظفين والمعابر ووقف التفجيرات وكافة أشكال الاعتقالات على خلفية سياسية، وكذلك انسداد عملية التسوية وتداعياتها على الحالة الفلسطينية في ظل تفرد القيادة المتنفذة في منظمة التحرير باتخاذ خطوات لا تلبي متطلبات المرحلة لعزل الاحتلال ومحاسبة قادته على جرائمهم بحق شعبنا الفلسطيني، واتخاذ خطوات تعجل من إقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس العربية بما يضمن عودة اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194.
منعطف تاريخي
فقد شكلت انطلاقة الجبهة الديمقراطية في 22 شباط/ فبراير 1969 منعطفاً تاريخياً بأبعاده المختلفة، لأنها كانت الفصيل اليساري الديمقراطي الذي جاهر بيساريته، ويضم في صفوفه مناضلات ومناضلين من العمال والفلاحين والشبيبة والمثقفين وصغار الكسبة والكادحين من المرأة والشباب من أجل التحرر الوطني الناجز للشعب الفلسطيني والتي هي جزء من الطبقة العاملة الفلسطينية وتعمل لتوحيد العلاقة الكفاحية بين فصائلها وسائر مكوناتها، تستند إلى تحليل فكري وسياسي متماسك مسترشدةً بالاشتراكية العلمية كمنهج لتحليل الواقع الاجتماعي ودليل للعمل من أجل تغييره.
وناضلت الجبهة الديمقراطية منذ انطلاقتها متبنيةً الكفاح المسلح ضد الاحتلال والاستيطان والعدوان إلى جانب العمل السياسي، فهي التي جمعت بين البرنامج السياسي والبندقية، وكانت الرائدة في فصائل العمل الوطني والإسلامي في المراجعات النقدية وطرح المخارج لكافة المعضلات الوطنية التي تجابه قضيتنا الوطنية الفلسطينية، وخير مثال، عندما قالت كلمتها في إصرارها على تشكيل الوفد الفلسطيني الموحد أثناء عدوان الجرف الصامد على غزة صيف 2014 لوقف العدوان وحماية المدنيين العزل من خلال وضع آليات تضمن التمسك بالثوابت الوطنية لشعبنا الثائر في غزة الذي يتعرض لأبشع عدوان همجي غير متكافئ عرفه التاريخ بأعتى أنواع الأسلحة الإسرائيلية والأمريكية مقابل شعب يمتلك الإرادة القوية رغم استمرار الانقسام بأشكاله المتعددة.
إن نجاح الجبهة الديمقراطية في فترة زمنية قصيرة من خلال طروحاتها الفكرية والسياسية وطرحها المبادرات أمام المنعطفات التي كانت تواجه الثورة الفلسطينية المعاصرة، جذب لها العديد من القوى والشخصيات والفعاليات ورجال الفكر والصحافة والإعلام على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي، وجرى التسليم لها بأنها تمثل اليسار الفلسطيني الجديد الذي أقام أوسع العلاقات العربية والدولية مع قوى يسارية وديمقراطية.
دور طليعي
فالجبهة الديمقراطية ما زالت تلعب دوراً طليعياً في المشاركة وصياغة العديد من المبادرات الوطنية لإسقاط الانقسام وتداعياته الخطيرة على القضية الوطنية الفلسطينية والمشروع الفلسطيني. وتدعو دوماً إلى توفير أدوات الصمود لشعبنا في مواجهة الهجمة الإسرائيلية الشرسة على شعبنا الغارق في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الانقسام المدمر، عبر إيجاد حلول لمعضلات الشعب من الكهرباء والمياه وغاز الطهي والبنية التحتية والفقر والبطالة وهجرة الشباب عبر مراكب الموت، وتوفير العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والكرامة والأمن وإطلاق الحريات العامة والديمقراطية وتجريم الاعتقال السياسي وتحريم المناكفات السياسية والإعلامية، وإيجاد حلول لمشاكل الموظفين بما يضمن لهم الأمان الوظيفي ووقف سياسة قطع الرواتب.
إنها الجبهة الديمقراطية التي لم تغير رؤيتها للانقسام في الساحة الفلسطينية باعتباره سرطان يجب استئصاله والتخلص منه إلى الأبد، وأحد المعيقات في طريق إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني. فقد بدأت هذه الرؤية تبرز في أحداث الانقسام والاقتتال في صفوف حركة فتح عام 1983 في لبنان والذي ساهم في إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وخلق محاور إقليمية وعربية، ما دفع الجبهة لاتخاذ موقف واضح ضد الانقسام مع قناعتها بضرورة إجراء إصلاحات ديمقراطية جذرية داخل منظمة التحرير واستخلاص دروس مجمل مرحلة العمل الفلسطيني على الساحة اللبنانية من خلال تشكيل التحالف الديمقراطي مع الجبهة الشعبية والحزب الشيوعي الفلسطيني وجبهة التحرير الفلسطينية (طلعت يعقوب) لمنع تكريس الانقسام والاستقطاب في الحركة الفلسطينية. وأثمرت جهود هذا التحالف عن اتفاق عدن- الجزائر 28/6 و9/7 عام 1984 والذي وقع مع قيادات حركة فتح.
وكما هو الحال في كل مرحلة من مراحل النضال، فالجبهة الديمقراطية ما زالت تكرس جهودها المضنية من أجل إسقاط الانقسام الفلسطيني واستعادة وحدة الوطن والشعب الذي أحدثه صراع المصالح بين حركتي فتح وحماس وانتهى بسيطرة (حماس) على قطاع غزة في 14 حزيران يونيو 2007 وانفصال قطاع غزة عن الضفة الفلسطينية والقدس المحتلة سياسياً وجغرافياً، فما كان للجبهة الديمقراطية إلا أن تواصل مساعيها لرأب الصدع الفلسطيني بإطلاقها العديد من المبادرات الفردية والثنائية والثلاثية والتي كان آخرها المبادرة السياسية المؤلفة من 10 نقاط في منتصف أكتوبر تشرين أول 2014 تتضمن عدد من النقاط للخروج من حالة الانقسام المدمر، لأن الجبهة تعي جيداً أن انجاز الاستقلال الوطني وإنهاء استعمار الاحتلال لن يتحققا دون تحقيق الوحدة الوطنية.
ثنائية السلاح والسياسة
حقاً إنها الجبهة الديمقراطية، التي لم تكل أو تتعب على أكثر من أربعة عقود تسلحت خلالها بالبندقية والنضال المسلح إلى جانب البرنامج السياسي فكان شعارها على الدوام «البندقية بيد.. والبرنامج باليد الأخرى»، أمام كافة الاستحقاقات الفلسطينية، فهي التي طرحت برنامج النقاط العشر/ البرنامج المرحلي في البيان الصادر عن دورة اللجنة المركزية الثانية في نوفمبر/ تشرين ثاني 1973 بعد حرب أكتوبر 1973 ليعتمد في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ12 في حزيران/يونيو 1974 تحت عنوان "برنامج النقاط العشر" الذي تحول بعد الدورة الـ14 للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1979 إلى برنامج الإجماع الوطني، كما خاضت في سبعينيات القرن الماضي العديد من العمليات النوعية والبطولية وكان أبرزها عملية معالوت/ ترشيحا الأولى في 15/5/1974 ثم عملية طبريا في 23/5/1974 وعملية مستعمرة هاؤ وفكشول وفسوطة وبيسان في عام 1974، إلى جانب عملية صفد والقدس ومستوطنة رامات مكشيميم في عام 1975 إلى عملية معالوت الثانية. وتسعى دوماً لتوطيد وحدة طبقات الشعب وقواه الوطنية في مختلف أماكن تواجده داخل فلسطين وفي أماكن اللجوء والشتات في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بما يعزز الائتلاف الشامل في إطارها على قاعدة برنامجها بما يرسخ مكانتها ودورها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
فقد أطلقت الجبهة الديمقراطية البرنامج المرحلي في آب/اغسطس عام 1973 الذي مثل مشروعاً ريادياً على المستوى الفكري والسياسي، بينما قام مقاتلوها بتنفيذ عملية معالوت في 15 أيار/ مايو عام 1974 التي مثلت عملاً ريادياً على المستوى العسكري، ونهجاً متميزاً في مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني. فعملية معالوت كانت ذات مغزى سياسي وإعلامي يهدف إلى إحراج العدو وإرباكه وجره للتفاوض، فالعملية جرت إسرائيل لأكثر من 18 ساعة ما أحدث دوي سياسي على المستوى الدولي وكانت الفاتحة لسلسة عمليات في نفس العام. كما تنظر الجبهة إلى المقاومة المسلحة بأنها أبرز أشكال النضال لدحر الاحتلال وتتوج أشكال النضال الأخرى وليست بديلاً عنها، ولن تحقق أهدافها بمعزل عن نضال الجماهير الذي تجسد بالانتفاضة إضافة إلى النضال السياسي الدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي والنقابي وسوى ذلك.
إن تطوير النقاش الداخلي في صفوف الجبهة الديمقراطية والتعجيل بإطلاق برامج سياسية للخلاص من الاحتلال، برز بعد هزيمة المقاومة في الأردن والتي فتحت الطريق نحو تسوية عربية - إسرائيلية للصراع وخاصة بين الأنظمة العربية وإسرائيل على قاعدة مشروع روجرز الذي أعلنت كل من مصر والأردن وإسرائيل قبوله قبل أحداث أيلول 1970 الذي كان سائداً في الفكر السياسي الفلسطيني بشكل عام، بأن المقاومة هي العقبة الرئيسة في طريق التسوية العربية الإسرائيلية وأن الهزيمة في الأردن تفتح الباب لتعجيل الحل، فيما أن هزيمة المقاومة دفعت إسرائيل إلى التنصل من مواقفها على مشروع روجرز والإصرار على مطامعها التوسعية في الضفة والقدس والتي تشكل العقبة الحقيقية في طريق الحل.
مراجعات نقدية شاملة
فقد اعتادت الجبهة الديمقراطية في كل مرحلة من مراحل النضال الوطني إجراء مراجعة نقدية شاملة لسياساتها، كما رأينا في أعقاب أحداث أيلول عام 1970 وأحداث جرش/ عجلون عام 1971 والتي تكبدت المقاومة الفلسطينية خسائر فادحة على الساحة الأردنية ما أدى إلى تصفية دور المقاومة في الأردن، واهتزاز الآمال الكبيرة التي ألقت على «الحرب الشعبية طويلة الأمد«، فكانت نقطة الانطلاق في عملية المراجعة عبر النقد الصريح والمعلن للسياسة التي انتهجتها المقاومة الفلسطينية بما فيها الجبهة الديمقراطية في الساحة الأردنية، والنقد كان منطلقاً لمحاولة الغوص برؤية تحليلية لعمق الواقع المعقد للعلاقات الأردنية- الفلسطينية وبخاصة وقوع الانقسام الإقليمي في المجتمع الأردني وجذوره الكامنة. فهذه المراجعة النقدية بلورت ما عرف لاحقا باسم «البرنامج المرحلي«، الذي اتخذ معالمه النهائية في آب 1973 ولكن ملامحه الأولى بدأت بالتشكل منذ تموز 1971 في التقرير السياسي حول « المهام الراهنة لحركة المقاومة الفلسطينية« الذي تقدمت به الجبهة الديمقراطية الى الدورة التاسعة للمجلس الوطني المنعقد في القاهرة آنذاك، والذي دعا بعبارات مبهمة إلى إقامة «منطقة محررة تخدم كقاعدة ارتكاز ثورية في الضفة الغربية إلى قلعة للنضال الثوري«.
وعلى هذه الطريق تواصل الجبهة الديمقراطية نضالها، وقد قدمت خلال عقودها الأربعة آلاف الشهداء في مقدمتهم أعضاء المكتب السياسي، واللجنة المركزية، عبد الكريم قيس حمد (أبو عدنان) وعمر القاسم (مانديلا فلسطين) والحاج سامي أبو غوش، مراد المجدوب وعاطف سرحان، وهشام أبو غوش، وصالح أبو النعاج، وخالد نزال، و أبو فراس كتمتو، وأبو مشهور البطل، وأعضاء قيادتها العسكرية، محمود خليفاوي، وأبو محمود الفوريكي، ولطفي عيسى وفايز أبو حميد، وعمر مسعد، وأبو خلدون، وأبو الوليد، وأبو صقر وبشير زقوت .
ففي ذكرى الانطلاقة المجيدة تحية المجد لشهداء شعبنا وثورتنا الأبية ولأسرانا في سجون الاحتلال ولجرحانا وكافة مناضلي شعبنا في الوطن والشتات.. عاشت الذكرى ودامت الثورة...
بقلم/ وسام زغبر