كل شئ جميل في هذه الحياة يأتي منفرداً، متقطعاً، متأخراً أو ببطئٍ شديد، أو بعد لأيٍ وتعبٍ كبير، أو إثر معاناةٍ وألم، أو لا يأتي أحياناً، ولو انتظرناه عمراً، ولكنه حين يأتي نفرح به ونسعد، ونبتهج ونحتفل، وننسى ما كابدنا وواجهنا، كالمولود يأتي فرداً ولو كان توأماً أو أكثر، وتعلم الصغير النطق، وبدء الوقوف والمشي، والزواج والنجاح، والعمل والوظيفة، والشفاء والعودة بعد سفرٍ أو طول غياب، أو الخروج من السجن والانفكاك من ضائقة، والحج والعمرة، وامتلاك البيت، وشراء السيارة وغيرها، كله يحدث مرةً واحدة، وقد لا يتكرر، وإن تكرر فإنه يتكرر في حدودٍ ضيقة، ولمراتٍ قليلة، وتكون الفرحة خاصة بأهلها، ومقصورة على أصحابها، وان اشترك معهم آخرون، أو فرح لهم الجيران والأقربون.
أما الأشياء المكروهة البشعة، المقيتة السيئة فتأتي بالجملة، أو دفعةً واحدة، تتدافع وتتداعى، وتأخذ برقاب بعضها البعض ولا تتأخر، وكأنها سيلٌ لا ينتهي، ونارٌ لا تشبع ولا تهدأ، وهي تتكرر كل ساعةٍ وحين، وتعيد نفسها في المكان نفسه أو في أماكن أخرى، وفي أزمانٍ مختلفة وأحياناً في الوقت نفسه، وفي المكان ذاته، وبين الضحايا أنفسهم، فتجرح الجرح المجروح، وتذبح المذبوح، وتقتل المقتول، وتستعيد كل الذكريات الحزينة، والآلام الموجعة، كالحروب والانفجارات، والمفخخات والمعارك، والحريق والطوفان والسيول والغرق، والهدم والنسف والتدمير، فإنها تتنقل وتتكرر، وتزداد وتتضاعف، وتجلب الموت بالجملة، وتستدعي القتل بالمجموعات، وفيها يعم الحزن، ويتضاعف الألم، ويتوزع الوجع، ويشترك فيه الناس جميعاً، الأقرباء والجيران والأحباب والفرقاء والغرباء والقاطنون والوافدون والعابرون والساكنون وغيرهم.
الأولى الجميلة لا نحسن صناعتها، ولا نملك حدوثها، بل ننتظر بفارغ الصبر وقوعها، ونترقب وصولها، وندفع الكثير من أجلها، ونذهب إلى آخر الدنيا نتأملها ونرجوها، لأنها في أغلبها قدرٌ محتوم، وكتابٌ مرسوم، لا نستطيع أن نتدخل فيها إلا بالجهد المحدود، فهي أكبر من قدراتنا، وخارج سيطرتنا، ولكنها غالباً تكون جميلة، تعمم الفرح، وتعمق السعادة، وتنشر المحبة، وتنسج خيوط السعادة على مدى المستقبل كله، فهي حياةٌ ومستقبل، وغدٌ وأمل، وأجيال تسلم أجيالاً، إلا أننا لندرتها ومحدوديتها نشتاق إليها ونتمنى حدوثها، وندعو الله دوماً أن يستجيب لنا ويحققها في حياتنا، فقد أضحت نادرة، وصارت صعبة وشبه مستحيلة، وقل أن تحدث بيننا، قد ضعف فيها رجاؤنا، لأن الثانية قد طغت عليها وهيمنت، وانشغل الناس بها، وخافوا على أنفسهم من شرورها، فهي تتربص بكل فرحة، وتغتال كل بسمة، وتقتل كل بارقة أمل.
الثانية مؤلمةٌ ومحزنة، وباكية وموجعة بأعدادها الكبيرة، ونتائجها المفجعة، وآثارها الكارثية، وزمانها الدائم، وأحوالها الباقية، وهي قد لا تكون قدراً، ولا كتاباً جبراً، وإن كان بعضها طبيعياً ومن سنن الكون والحياة، مما نصبر عليه ونحتسب، ونرضى به قدراً ونقبل به من الله ابتلاءً، ولا نسأله رد القضاء ولكن ندعوه للطف فيه، ونطلب منه الأجر عليه، ونرجو منه الرحمة بسببه، لكن أكثرها نحن صناعها، نتحمل مسؤوليتها، ولا نبرئ أنفسنا منها، إذ نصنعها بأيدينا، ونتنافس في خلقها، وننشغل في استمرارها، ونحاسب أنفسنا إن تأخرنا في تفجيرها، أو تباطئنا في خلقها، أو قصرنا في توفير الأسباب الموجبة لها.
نحن نشعل نار الحرب التي تقتل الآلاف، وتفتك بالأجيال كلها، ونوقد لهيب المعارك التي تحرق الأخضر واليابس، وتجعل بلادنا ركاماً، وأوطاننا أطلالاً، ونعيد بأيدينا تشغيل الطاحونة التي تدور ولا تتعب، ولا نتعلم من الفقد، ولا نأخذ عبرةً من الخسارة، بل نكرر مصائبنا بأيدينا ولا نتوب، ونستأجر قاتلنا بأموالنا ولا نتعلم، وندفع لمن يفجعنا ولا نعي، وننقل الموت إلى غيرنا بأيدينا بفرحٍ وبلهٍ وسذاجةٍ، وكأننا ننقل شعلة الدوري أو الأولمبياد العالمية، ولا ندري أن الشعلة في بلادنا تتقد بلحمنا، وتشتعل بدمائنا، ويزيد أواروها بكل ما يلقى فيها من أجسادنا، ويرمى إلى قعرها بأرواحنا البريئة والصغيرة، والضعيفة والكبيرة، التي لم تهنأ بالعيش، ولم تستمتع بالحياة، ولكن قطار الموت دهمها بالجملة، وقتلها بلا رحمةٍ.
الثانية للأسف كثيرة ومتوفرة وغب الطلب وحسبه دائماً، وأدواتها جاهزة، وصناعها حاضرون، والمشاركون فيها متعددون ومتنوعون، لا يتعبون ولا يملون، ولا ييأسون ولا يقنطون، إذ القتل عندهم عادة، بل إنه عند بعضهم عبادة، وقرباناً يقدم، وعملاً خيراً يبذل، وكأنهم به يتوسلون رضى الله ويبتغون رحمته، فلا يشعرون أنهم يرتكبون جرائماً لا يغفرها الله، ولا يعفو عن مرتكبها ولا ينساها له، ولا يرضاها نبيه ولا رسوله، ولا سلفه وخلفه، والدمار لديهم تسلية ومتعة، وآلة القتل لديهم ماضية، وأسيادهم خارج الحدود، ومراجعهم خلف الأستار، يحركون الضحايا بأصابعهم كعرائس الأطفال، ودمى الصغار، ولا يأبهون بمن يسقط، ولا يحزنون لمن يقتل.
ويلٌ لنا من الثانية، إنها حالقةٌ ماحقة، لواحةُ للبشر ولا تبقي ولا تذر، وترمي بلهيبها على أرضنا بشررٍ كالقصر، ممدودةٌ بلا حد، وواسعةٌ بلا نهاية، وعميقة بلا قعر، وقد آن أوانها، وظللنا زمانها، وتحكم فينا جهالها، وسيطر عليها سفاؤها، واستعرت فينا سكينها، فاستباحت الدم، واستحلت أعراض الحرائر، وارتكبت المجازر، حتى لم يعد للأولى مكان، ولا للفرحة في حياتنا مطرح، نعوذ بالله منها، ونسأله الرحمة والعافية، وأن يقيض لهذه الأمة رجالاً حكماء، وأبناءً لها مخلصين، وقوى صادقة، وجهوداً مباركة، تخرجها من المحنة، وتتجاوز بها الغمة، وتصل بها وبأبنائها إلى بر الأمان وشاطئ السلام.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي