أُدرك أنك تعود بذاكرتك لذات أيلول قبل أكثر من خمسة قرن وأنت مفعم بالأمل في ساحة البيت الأبيض حين بدا أن التاريخ يفتح صفحته الجديدة، حينها اعتقدنا أن قطار التسوية انطلق بنا نحو محطة الدولة وضبطنا ساعاتنا على خمس سنوات زائدة لاحتلال زائل كما قدر أمثاله، ولكن يبدو أن التاريخ هذه المرة انخدع مثلنا جميعاً، وبينما كنتم مفعمين بالرغبة بالتوصل إلى حل كان الإسرائيلي مدججاً بسوء النوايا التي تبدت على امتداد الفارق الزمني بين ذلك اليوم وبين هذا اليوم.
كيف تحول المؤقت إلى دائم؟ لقد تواطأنا جميعاً لإغفال هذا السؤال الذي كان يجب أن يكون أداة بحثنا عن الخلاص الدائم، كيف تمكنت إسرائيل من تضليل العالم وتضليلنا طوال هذه السنوات لنكتشف بعد عقدين أنها استدرجتنا إلى هذه اللحظة التي بقي الوقوف فيها صعباً والتقدم للأمام أصعب والتراجع أكثر صعوبة، وباتت خياراتنا أكثر محدودية مع مرور الوقت.
كيف تمكنت اسرائيل من إنشاء معادلة لم نعد قادرين على تحمل تبعاتها ما بين الوطني والانساني؟ وعلينا أن نختار أيهما إذا أردنا الذهاب نحو الوطني حتى باللجوء إلى القضاء الدولي فعلينا أن ندفع الثمن الانساني، وإذا قبلنا بما تقرره دولة الاحتلال علينا أن ندفع الثمن الوطني وبتنا لا نرى حلاً لكسر هذه المعادلة.
فالسلطة يا سيادة الرئيس أنشئت كحالة مؤقتة ولها وظيفة محددة هي التفاوض مع إسرائيل لمدة محددة، والآن بعد أكثر من عقدين على هذا الاتفاق، وبعد أن أغلق الإسرائيلي طريق المفاوضات ماذا يمكن للسلطة أن تفعل في ظل كل تلك القيود المفروضة عليها وقدرة الإسرائيلي في الإمساك بكل الخيوط؟ لقد قبلنا أن تعمل السلطة تحت الاحتلال لمدة خمس سنوات، قبلنا أن نكون متسولين لتلبية حاجات الناس لأن الاحتلال لن يمكننا من إقامة اقتصاد قادر على تغطية تلك الحاجات، ولكن أن تستمر السلطة طيلة هذه السنوات فهذا وضع هندسه الاسرائيلي بكفاءة عالية، ونحن لم نتوقف أمام ذاتنا ونسأل ذلك السؤال منذ سنوات، فهل من الممكن تأبيد وضع تضطر فيه السلطة للتسول للانفاق على منطقة خاضعة للاحتلال؟ فيما تحول هذا الأخير إلى أرخص احتلال في التاريخ فلماذا يرحل؟
لقد كان خيارك بالمفاوضات صائباً وهكذا كان يفعل أي قائد عاقل حسب نظرية «الحق الكذاب لباب الدار» وقد فعلت ذلك برغم كل الانتقادات والمطالبات بالانسحاب، وكان لدينا رغبة مثلك بكشف الإسرائيلي أمام العالم وليعرف هذا العالم ما عرفته انت منذ بدايات المفاوضات بأن هذا الإسرائيلي كاذب ومخادع ومناور، وقد فعلتم فماذا بعد؟ لقد خذلنا العالم الشاهد على هذا التاريخ الطويل من التضليل وأولهم الدولة التي رعت ذلك الاتفاق واحتكرت عملية التسوية والمفاوضات وقدمتم لها كل التسهيلات لانجاح مهمتها الأخيرة، ولكن لم تكن لديها حتى الشجاعة الكافية لاتخاذ موقف.
ماذا بقي أكثر من ذلك؟ راهنا على العالم حين يكتشف الحقيقة ولكن هذا العالم بطيء في حركته ومواقفه التي تتحرك بسرعة السلحفاة فيما الاستيطان والقضاء على حل الدولتين سار بسرعة الفهد.
لقد انزاحت اسرائيل نحو اليمين بلا رجعة وخرج قطار التسوية عن سكته وبات من الواضح أنه لن يصل إلى محطته وإن تقلب على حكم إسرائيل حكومات تعددت بين يمين ويسار ووسط كانت كأنها قد أجمعت على مفاوضات بلا حل ومستوطنات بلا كلل، وأمام هذا الفعل المنظم باتت الخيارات الفلسطينية محدودة وأمام ما كشفته محاولة كيري الأخيرة ونتيجتها التي لا تدع مجالاً للشك بات البحث عن خيارات فلسطينية جديدة هي المهمة الأولى للنظام السياسي الفلسطيني الذي تقوده.
لقد خدعنا العالم الذي كنت تنتظر منه مواقف جريئة، فالخارجية الأميركية التي صفعت على وجهها لم تجرؤ على إعلان مسؤولية إسرائيل عن إفشال المفاوضات، وبات من الواضح أن المراهنة على العالم بالرغم من تقدم موقف الكثير من دوله وبرلماناته إلا أنها تحتاج إلى وقت طويل، والوقت بالنسبة للفلسطيني من أرض ودم لأننا لم نعد نرى في السياسة الإسرائيلية سوى سرقة الأرض في الضفة وإهدار الدم في غزة وهذا بحاجة إلى وقفة كبيرة.
الكابوس بالنسبة لإسرائيل هو حل السلطة، هكذا تحدث أكثر من جنرال إسرائيلي وأكثر من كاتب أبرزهم منظر اليمين موشيه أرنس في مقال له في صحيفة يديعوت أحرونوت حين كتب بالنص «افعلوا كل شيء ولكن حذار أن نعود لكنس شوارع رام الله» إن إسرائيل لا تحتمل أمنياً ولا اقتصادياً ولا سياسيا العودة لتحمل المسؤولية، وتأكد سيادةَ الرئيس لو أنه لم يكن لإسرائيل مصلحة في إبقاء وتأبيد الوضع الراهن لقضت على السلطة منذ زمن كما قضى اليمين الإسرائيلي نفسه على رابين والزعيم ياسر عرفات.
فأمام الرغبة الإسرائيلية بتخليد القائم والمصلحة الفلسطينية بالخروج من الراهن يبدو أننا بحاجة إلى قلب الطاولة، وحين يخذلنا العالم علينا العودة للبحث عن خيارات وممكنات القوة الفلسطينية، وهما لدى شعبنا الذي لم يعد يحتمل أن يدفع ثمن استمرار الاحتلال ولديه من الوسائل ما يمكن أن يجعل أكثر متطرفي اسرائيل يقف ويقول «فهمتكم».
لقد وصلت السلطة إلى نهايتها سواء بانتهاء مهمتها التي صممت من أجلها أو بسبب أن الأمم المتحدة رفعت مكانة فلسطين إلى دولة، وهنا أيضاً مأزق خياراتنا حين نطالب في ورقة المصالحة بإجراء انتخابات المجلس التشريعي كما يقول القانونيون وهو مجلس السلطة في الوقت الذي حصلنا على اعتراف دولة فما العمل إذن؟ لقد وقعنا في أكثر من التباس وكلها بحاجة إلى نقاش وإلى حلول، ويمكن في خيار قلب الطاولة ما يضع حداً لها جميعاً؟
كثيرون سيقولون لكم أن السلطة إنجاز وطني، هذا كان صحيحا في سنواتها الاولى ولكن مع الزمن تحولت الى عبء وطني، كثيرون سيقولون أن هذا الخيار مكلف، هذا صحيح ولكنه بحسابات السياسة الهادئة أقل كلفة من استمرارها تحت الاحتلال وابتزازه الدائم ومعادلاته التي يتحكم بنتائجها ...نحن بحاجة الى مبادرة تغادر مربعاً أراد الاسرائيلي أن يبقينا داخل أضلاعه الأربعة، والمهمة كيف نكسر أحدها ونخرج؟ حل السلطة وقلب الطاولة في وجه الجميع.
افعلها يا سيادة الرئيس والجميع سيقف خلفك، شعبك بكل فئاته، فقد شاء القدر أن تكون قائده في أشد اللحظات صعوبة وأن تواجه أشد الأعداء دهاء، فإسرائيل لا تملك في أفضل خياراتها سوى المفاوضات، ويبدو أن اليمين سيعود لحكم إسرائيل، وهذا اليمين له مهمة واحدة هي إنقاذ إسرائيل من المفاوضات التي تسبب بها اليسار ومن السلام ...وقد نجح ... افعلها وكلنا خلفك...!
أكرم عطا الله
22 شباط 2015