"سنوقف التنسيق الأمني… لا لن نوقف التنسيق الأمني"

بقلم: علي الصالح

لا أدري لماذا كلما سمعت تهديدا من أي مسؤول فلسطيني، بوقف التنسيق الأمني، ومن آخر ينفي إمكانية وقف التنسيق الأمني، ابدأ تلقائيا بيني وبين نفسي بترديد "شاب شايب.. شاب شايب، أو بتحبني لا ما بتحبني.. لا بتحبني". وهذه لعبة تعود بذاكرتي إلى أيام الطفولة الحلوة النقية البريئة في فلسطين.. مع الكثير من الفوارق طبعا.
ففي فصل الربيع الجميل في فلسطين، حيث الزهور البرية الزاهية المتعددة الألوان، كنا، وهنا أتحدث عن قبل أكثر من 55 عاما، نسلي أنفسنا في غياب "الهلمة" التكنولوجية الحديثة، من التلفزيون الذكي او حتى الغبي، وألعاب الكمبيوتر والآي فون من الأول حتى السادس، والسامسونغ، والإنترنت والفيسبوك والتويتر، إلى آخره، بألعاب بريئة من صنع أيدينا ومن واقع بيئتنا.
من بين هذه الألعاب الكثيرة، كنا نمارس لعبة بسيطة ببساطة وبراءة الطفولة، تتضمن هذه اللعبة غير المكلفة، زهرة بيضاء اللون عديدة الوريقات الصغيرة. وهي ليست أكثر من سحب هذه الوريقات ورقة ورقة.. والترديد مع كل ورقة تسحب كلمة شاب والثانية شايب والثالثة شاب إلى اخره، وتستمر اللعبة الى ان تنتهي كل الوريقات… طبعا الأطفال الأكبر أو بالأحرى المراهقون، كانوا يستبدلون الكلمتين بـ"بتحبني لا ما بتحبني.. لا بتحبني". وكنا نشعر بسعادة لا توصف عندما نسحب الورقة الأخيرة مع كلمة شاب وليس شايب.. أو بتحبني.. وليس ما بتحبني.. وهكذا كنا نقضي وقتا طويلا وممتعا.
وأعود إلى واقعنا الراهن المرير.. ففي الأشهر الأخيرة أو بالأحرى منذ منتصف العام الماضي 2014، كثرت تصريحات المسؤولين الفلسطينيين المتناقضة بشأن وقف التنسيق الأمني من عدمه إلى درجة أنها اصبحت موضع تندر في الشارع الفلسطيني.. ويبــــدو أن اللعــبة هذه أعجبتهم وذكرتهم بماضيهم وبلعبة أيام الطفولة "شاب شايب". لكن في لعبة الطفولة كنا نتسلى ونقضي أوقاتنا بوريقات الزهور.. وكنهم في لعبة الكبار يتسلون بمصائر البشر.. في لعبة الطفولة لم نكن نلحق الأذى او الضرر بأحد.. وفي لعبة الكبار الضرر عام.. في لعبة الطفولة كان الطفل يتحكم بالنتائج.. وفي لعبة الكبار هناك من هم أكبر منهم يتحكمون بالنتائج..
في لعبة الطفولة هناك البراءة.. في لعبة الكبار المصالح والسياسة.
سأحاول أن أكون موضوعيا في النقاش، ولن أتطاول على أحد، ولن ألقي التهم جزافا.. وأتساءل.. هل التنسيق الأمني لفائدة الفلسطينيين، أم مجرد التزام باتفاقات لا يلتزم بها الطرف الآخر. والتنسيق بالمفهوم العام هو تنسيق بين طرفين صديقين تجمعهما الثقة والمصلحة الواحدة.. ويعم بالفائدة على الجميع..
فاذا كان التنسيق لفائدة فلسطين، وأنا شخصيا أشك في ذلك وغيري كثيرون، فليوضح المعنيون هذه الفائدة في بيان أو خطاب يشرح فائدة هذا التنسيق، وبذلك يسكتون المطالبين بإلغائه وهم كثر، ومن بينهم مسؤولون كبار في فصائل منضوية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، ناهيك عن الفصائل الأخرى مثل حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ويضعون الجمهور أمام هذه الحقائق ويتركونه يختار.. و"يفركون بصلة" كما يقال في عيون المتهِمين والمتطاولين.. هذا أولا.
ثانيا إذا كان كذلك، فإن من الخطأ، بل من الخطأ الفادح التلويح والتهديد بوقفه لأن في ذلك الحاق الضرر بمصالح الشـــعب الفلسطيني. أما إذا كان التنســـيق الأمـــني ليس في صالح فلسطين والفلسطينيين، وهـــذا من وجهة نظري هو الواقع، ويقدم خدمات جليـــلة لدولة العدو وهذا هو المرجح.. فإن التمسك به، إما أن يكون كما أسلفنا، التزامــا باتفاقات لم تعد قائمة أصلا، لأن الطرف الآخر غير ملتزم بها وأعلــن وفـــاتها في غير مناســبة، وكذلك في ممارســــاته اليومـــية على الأرض من قتل وتدمير ومصادرة أراض واستيطان وحجز أمـــوال ومماطلات وتهـــرب من تنفيذ استحقاقات إلى آخر هذا الموًٰال.. وعلى الجانب الفلسطيني ألا يلتزم بها لأنها أصبحت جزءا من ماض سحيق، والالتزام به يأتي بكوارث على الشعب الفلسطيني، هذا أولا.
وثانيا الخوف من ردود الفعل الإسرائيلية والأهم منها التهديدات الأمريكية، وحتى الغربية الأخرى وربما العربية، في ظل التفكك العربي الناجم عما يسمى بـ"الربيع العربي" وسياسة المحاور الجديدة التي أفرزها "الربيع العربي" وإسرائيل في قلبها. ولا أدل على ذلك من الاتصال الهاتفي مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي بادر إليه وزير الخارجية الامريكي جون كيري ليل الأربعاء الماضي، وهو يعكس مدى المخاوف الأمريكية من تنفيذ الفلسطينيين تهديدهم بوقف التنسيق الأمني، خلال اجتماعات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية المقرر أن تبدأ يوم الأربعاء المقبل. وما رشح عن هذه المكالمة يؤكد أنها حملت تهديدات باحتمال قطع المساعدات الأمريكية في حال اتخذ المجلس المركزي قرارا بوقف التنسيق. وهذا يعكس اهتمام واشنطن ومن ورائها تل أبيب بالإبقاء على التنسيق، بسبب الخدمات الأمنية الجليلة التي تقدمها السلطة بموجبه لإسرائيل.
وفي السياق ذاته فان الوزير الأمريكي بحث مع الرئيس عباس جدول أعمال المجلس المركزي، الذي يضم 13 ملفا في مقدمتها إضافة الى موضوع التنســيق الأمني، الاتفاقات الاقتصادية. وعلى ذمة الراوي فإن كيري طلب من الرئيس عباس عدم اتخاذ قرار في هذا الشأن.. وحسب الراوي أيضا فإن كيري لم يكن الوحيد الذي يحاول ممارسة الضغط على الرئيس عباس، بل أن مسؤولين عربا اتصلوا به وطلبوا منه تخفيف القرارات المتوقع أن تصدر عن المجلس.
ثالثا: هناك من يقول إن التنسيق الأمني ضمانة لعدم انهيار السلطة الوطنية.
ورابعا، الخوف من فقدان امتيازات ما، يوفرها الإبقاء على هذا التنسيق لكبار المسؤولين مثل، بطاقات الشخصيات المهمة (VIP) التي تسمح لحامليها بحرية التحرك ودخول الخط الأخضر الى مناطق 1948. وهذا ما يردده المشككون.
ولكن سواء كان التنسيق الأمني لفائدة الشعب الفلسطيني أو بالمطلق لفائدة دولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية التي يوفر عليها هذا التنسيق الكثير من الجهود التي تخصصها لاستخدامها في اعتداءات أخرى ضد الشعب الفلسطيني، فإنه خطأ بل جريمة الربط بين أي حق وحق.. صحيح ان الحقوق مترابطة ومتداخلة، لكن ذلك لا يعني المطالبة بحق على حساب الحق الآخر. فمن حق الفلسطينيين ان يوقفوا التنسيق الأمني اذا كان في غير صالحهم، فهو عدا عن أنه أصبح مطلبا جماهيريا فانه مرتبط باتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقات أعلنت حكومات إسرائيل المتعاقبة عن وفاتها، بينما لا تزال السلطة متمسكة به باظافرها وأسنانها.
خطأ الربط بين قرار وقف التنسيق بالفشل في مجلس الأمن
خطأ ربط وقف التنسيق بتواصل الاستيطان
خطأ ربط وقف التنسيق بقرار اسرائيل تجميد أموال الضرائب
خطأ ربط وقف التنسيق بعملية تهويد إسرائيل للقدس المحتلة
خطأ ربط وقف التنسيق بالرد على اغتيال الوزير زياد أبو عين بدم بارد
خطأ استخدام حق وقف التنسيق كتهديد.. فقد أصبحت هذه التهديدات فارغة، تذكرني بقصة الراعي والذئب.
السياسة لا تدار بهذه الطريقة، بل وفق استراتيجية مدروسة ومنهجية تحكمها الإيجابيات والسلبيات لا ردود الأفعال العاطفية. وردود الأفعـــال لن تقود إلا إلى طريق مسدود. وهذا ما عايشناه على مدى العقدين الماضيين ونعيشه الآن. واعتقد أنه آن الأوان لكي نتعلم الدرس ونمارس العمل السياسي والدبلوماسي على أصوله.. وكفانا تخبطا.

علي الصالح

٭ كاتب فلسطيني بصحيفة "القدس العربي"