قبل توقيع اتفاقات اوسلو، وقبل تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح المسلح والبدء في اللهاث خلف سراب الحلول السلمية، كانت اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني تستقطب اكثر من الف صحافي يأتون من مختلف انحاء العالم لتغطية فعالياتها، وكان معظم قيادات الصفين الاول والثاني في المنظمة نجوما تتزاحم وكالات الانباء ومحطات التلفزة ومندوبو الصحف للحصول على لقاءات معهم، او تصريحات على لسانهم.
الآن، وبعد “اعتدال” منظمة التحرير، واغتيال شهيدها ياسر عرفات، وتحوّل الانتفاضة الى مجرد حدث تاريخي يجري تدريسه في بعض الكتب على استحياء شديد، بعد تغيير مناهج السلطة الدراسية بحيث تصبح اسرائيل جارا طيبا وليس عدوا، لم يعد هناك مجلس وطني فلسطيني لكي ينعقد لكتم اصوات بعض “المشاغبين” وطنيا فيه، وجرى استبداله بالمجلس المركزي، الحلقة الوسط بينه وبين اللجنة التنفيذية للمنظمة، تحولت اجتماعاته، اي المجلس، الى حفل شاي يتبادل فيه الاعضاء ذكرياتهم، وصورة باهتة او بقايا اطلال لمؤسسة سياسية فلسطينية كانت تهز قراراتها العالم بأسره في الزمن الفلسطيني الجميل.
اليوم الاربعاء اجتمع المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله “بمن حضر” من انصار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومحبيه، داخل الاراضي المحتلة وخارجها، ولم يحظ هذا الحدث بأسطر قليلة في اجهزة الاعلام الفلسطينية (باستثناء تلفزيون الرئيس) بل لا نبالغ اذا قلنا انه لم يسمع به احد في اوساط الشعب الفلسطيني في الوطن او المنافي.
من الذي يتحمل مسؤولية هذا الانهيار الذي وصلت اليه القضية الفلسطينية، وانحدار الاهتمام الدولي والعربي بها الى هذه المستويات السفلى، بعد ان كانت حتى الامس القريب تحتل مكانة الصدارة في الذهن العربي، والضمير العالمي؟
***
نقول دون اي تردد، بأن المسؤولية الكبرى تقع في معظمها ان لم يكن كلها على عاتق الرئيس عباس والمجموعة التي تلتف حوله، وتزين له الخنوع والاستسلام والبقاء ذليلا في مقر سلطته في رام الله لا يفعل شيئا على الاطلاق لقضية شعبه، وكأنه تمثال من خشب، او “خيال مآته” مثلما يقول اخواننا المصريون.
ثمانون عضوا حضروا اجتماع المجلس المركزي من اصل 110 اعضاء ليس من بينهم من يمثل اهم تنظيمين فلسطينيين، اي حماس والجهاد الاسلامي، حيث لم يحصل البعض على تصاريح بالدخول من سلطات الاحتلال او انتقل البعض الثالث الى الرفيق الاعلى، بينما يقبع البعض الآخر في سجون الاحتلال، ومعظم الذين حضروا مشكوك في شرعية عضويتهم، فلا احد يدقق في الاسماء، طالما ان الرئيس اختارها، وعلى اي حال فان المجلس كله منتهية صلاحيته قبل عشرة اعوام او اكثر، وكذلك هو حال الرئيس عباس وسلطته ولجنته التنفيذية ومجلسه التشريعي، ولكن من يحاسب؟
قبل الاجتماع اشاع “وعاظ سلاطين” السلطة بأن احتمالات حل السلطة وانهاء التنسيق الامني مع السلطات الامنية الاسرائيلية واردة جدا كرد فعل على تجميد اموال السلطة وعوائد ضرائبها الشهرية (127 مليون دولار) من قبل حكومة نتنياهو، ولكن حتى هذه الاسطوانة المشروخة والمكررة لم تثر شهية الصحافيين والاعلاميين وتغطية هذا الاجتماع لصحفهم ومحطات تلفزتهم مع استثناءات محدودة جدا.
السلطة مفلسة ماليا وسياسيا، وباتت تستدين من البنوك المحلية لتغطية نفقاتها، ودفع جزء يسير من رواتب منتسبيها الذين يزيد عددهم عن 180 الف موظف غالبيتهم من حركة “فتح” حزب السلطة، وبعض الفصائل المنقرضة، وهناك من يقدر حجم هذه الديون بأكثر من خمسة مليارات دولار، وتتحمل مسؤولية تسديدها الاجيال القادمة ولا نعرف من اين وكيف؟ من عوائد مناجم ذهب الخليل ام غاز غزة؟
الرئيس محمود عباس الذي القى خطابا مطولا في جلسة افتتاح المجلس المركزي لم يهاجم اسرائيل “العدو”، الذي يجمد اموال السلطة ويدفعها الى حافة الافلاس، ويحاصر الفلسطينيين في غزة، وانما صب نار هجومه على حركة “حماس″ التي حملها مسؤولية تعطل عملية الاعمار في قطاع غزة، واغلاق معبر رفح، ونحمد الله انه لم يصنفها حركة “ارهابية” مجاملة للسلطات المصرية والاسرائيلية.
والاكثر من ذلك ان الرئيس عباس اعرب عن استعداده للتفاوض مع اي حكومة يختارها الناخب الاسرائيلي في الانتخابات البرلمانية التي ستجرى بعد اسبوعين، ولم يطرح اي شروط بما في ذلك شرط وقف الاستيطان.
فقرة واحدة في خطاب الرئيس عباس تلفت الانظار، انظارنا نحن على الاقل، هي تلك التي قال فيها “يتوجب علينا اعادة النظر في وظائف السلطة التي لم تعد لها سلطة، وعليه دراسة كيفية اعادة سلطة ذات سيادة وضمان ذلك”.
لم يقل لنا الرئيس عباس كيف سيعيد السيادة والسلطة، الى سلطته، ولكنه اعاد التأكيد بأن الشعب الاسرائيلي هو شعب شريك ومستعد للتوصل الى اتفاق سلام معه، تناقض ما بعده تناقض.
***
لا افهم لماذا يقبل الشعب الفلسطيني بهذا الوضع المهين، مثلما لا افهم كيف يقبل عقلاء حركة “فتح” ومناضليها وكوادرها بازدرائهم وتاريخهم الوطني الحافل بالشهداء، من قبل هذه القيادة، ثم كيف يستمر اعضاء المجلس المركزي في البقاء في مقاعدهم ولا ينسحبون، بل لا يشاركون بالاساس، احتجاجا، وبعضهم عاش مرحلة المقاومة الفلسطينية في اوجها، وكان بعضهم يتصدى او يشاهد من يتصدون للرئيس الشهيد عرفات اذا ما حاول المهادنة او الالتفاف قليلا على بعض الثوابت الوطنية الفلسطينية.
اعترف انني ترددت طويلا في تناول هذا الموضوع في هذا الحيز، لانني اعرف ان حالي سيكون مثل حال الذي ينفخ في قربة مثقوبة، ولكن اضطررت مكرها، تجاوبا مع طلبات بعض القراء الاعزاء الذين يطالبون دائما بعدم تجاهل الهم الفلسطيني.
هنيئا للرئيس عباس كل مناصبه، التي لا يتسع المجال لذكرها لكثرها، وهنيئا لاعضاء المجلس المركزي اجتماعاتهم هذه، ولولا انني اعلم جيدا بحكم كوني عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، انهم لا يتقاضون رواتب شهرية او مكافآت لقلت لهم هنيئا ايضا للعطاءات المالية المجزية، ولا افهم، والحال كذلك اسباب مشاركتهم وتلبية الدعوة لمثل هذه الاجتماعات التي تحولهم الى “شهود زور”، ومعظمهم تخطى السبعين من العمر، ويتحملون سماع هذه الخطابات المكررة المملة، ويصفقون لها؟ اتمنى ان اتلقى جوابا.
عبد الباري عطوان