تناولنا في مقال سابق نشر قبل عدة أيام موضوع التقارب الحمساوي الإيراني ودوافع ذلك لدى الطرفين. وسنسعى في هذا المقال الذي يشكل حلقة ثانية من نفس الموضوع ولكن بتناول أبعاد هذا التقارب على الشأن الداخلي الفلسطيني وانعكاس ذلك على العلاقات الحمساوية مع المحيط العربي والإقليمي والدولي. فمن المعروف أن حركة حماس قد دخلت الانتخابات المحلية والتشريعية الفلسطينية عام 2006م بموافقة وتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية التي أرادت وفق رؤيتها السياسية أن تدمج حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني على أمل أن يتم تدجينها ضمن الرؤية الأمريكية للتسوية السلمية، ووفق رؤيتها للتعامل مع الإسلام السياسي المعتدل في مواجهة الحركات الإسلامية الأصولية المتطرفة. كما أن مشاركة حركة حماس في السلطة يكسب السلطة مشروعية أكبر في مرجعيتها كما يكسبها شعبية أكبر كون حركة حماس حركة معارضة تتمتع بشعبية كبيرة. ولذلك ذللت الولايات الأمريكية المتحدة موضوع مشاركة القدس الشرقية في الانتخابات وأجبرت إسرائيل على تجاوز هذا العقبة التي حاولت إسرائيل فرضها في وجه إجراء الانتخابات. كما أيد الرئيس أبو مازن مشاركة حركة حماس في الانتخابات بهدف دمجها تدريجيا في النظام السياسي الفلسطيني وبالتالي تسير وفق رؤيته السياسية في التسوية السلمية عن طريق المفاوضات.
ولكن كان لحركة حماس رؤية مختلفة حيث إنها كانت ترى أن إعلان إسرائيل نيتها الانسحاب الأحادي من قطاع غزة هو نتيجة ضغط المقاومة التي تقودها حماس، وبالتالي هناك استحقاقات لهذا النضال. فرفعت حركة حماس على لسان قائدها الشيخ أحمد ياسين شعار "شركاء في الدم شركاء في القرار" سنة 2003م. وقد وضع هذا الشعار الأسس التي انطلقت منها حركة حماس في المشاركة في انتخابات الهيئات المحلية والانتخابات التشريعية. ولكنها كانت ترى أن خروج جيش الدفاع الإسرائيلي من غزة يعني مرحلة سياسية جديدة بإمكان حركة حماس أن تقودها. ولذلك أعلنت حركة حماس على لسان أحد كبار قيادييها " أن اتفاق أوسلو قد مات". ودخلت حركة حماس الانتخابات دون الاتفاق مع الرئيس أبي مازن على مرجعية سياسية تشكل أرضية خوض الانتخابات الفلسطينية. وبالتالي دخلت حركة حماس الانتخابات ضمن رؤيتها الخاصة. وبناء عليه حدث ما حدث لاحقاً من تصادم البرامج مع حركة فتح، وعدم استجابة الحركة لشروط الرباعية والتي كانت تريد حصر الحركة وتدجينها ضمن رؤية التسوية. وبالرغم من أن حكومة حركة حماس تعاطت ببراغماتية مع الاتفاقيات السابقة، وورد في برنامجها أنها تحترم الاتفاقيات الموقعة ويعد ذلك خطوة براغماتية من حركة حماس ذات الأيدلوجية الإسلامية إلا أن ذلك لم يلب شروط الرباعية. وربما يعني ذلك أن حركة حماس لم تستطع أن تقفز على واقع أوسلو الممسك بكل حياتنا اليومية، وبالتالي كانت قراءة حماس خاطئة للمرحلة ولم تقرأ جيداً أصول اللعبة. وارتكزت إلى شرعية وجودها في السلطة بسبب الفوز في الانتخابات. كما أن أيدلوجية حركة حماس تجعلها غير قادرة على التحليق بعيدا بالرغم من اتصافها بالبراغماتية ولكن لهذه البراغماتية حدود عندما يتعلق الأمر بحركة تنطلق من جذور أيدلوجية أيا كانت هذه الأيدلوجية. ولذلك فإن دخول حركة حماس لعبة السياسة له ثمن، ودخولها سلطة ذات مرجعية أسلوية له ثمن. ولذلك عندما حاولت حماس أن تتمرد على كل ذلك وقامت بانقلابها في حزيران 2007م تم تشديد الحصار عليها. وبدا واضحاً أن المجتمع الدولي وإسرائيل قد انتقلوا من مرحلة محاولة الدمج في النظام السياسي إلى محاولة التدجين والتركيع من خلال الحصار الذي وجد تواطؤ عربي ودولي.
إن زيادة الضغط على حركة حماس وحصارها وعدم قبولها في المجتمع الدولي بالرغم من فوزها في الانتخابات، واعتقادها أن هذا الفوز يشكل نافذة قبول في المجتمع الدولي الذي يحترم الديموقراطية. ولكن حركة حماس لم تدرك جيدا بسبب نقص خبرتها السياسية أن المجتمع الدولي يكيل بمكيالين وأن مصالحة التي تلتقي مع مصالح إسرائيل تتجاوز قضية الديموقراطية واحترام نتائج الانتخابات. ولذلك حاولت حركة حماس من خلال حكومتها المقالة ومن خلال قيادتها أن تتعامل ببرغماتية أكبر لكي يتاح لها تحقيق اختراقات في المجتمع الدولي. ويمكن القول إن تيار خالد مشعل المعتدل هو من صاغ المرحلة السابقة، وهي مرحلة سعت حركة حماس من خلالها أن تكتسب الشرعية السياسية في النظام الفلسطيني وفي النظام العربي والدولي. ولكن كما قلنا فإن براغماتية حركة حماس لم تصل للمستوى المطلوب منها إسرائيليا ودوليا، ولذلك سعت إسرائيل من خلال الحصار وشن الحروب على غزة إلى تكسير إرادة حماس وتدجينها وفق الرؤية الإسرائيلية. ولذلك انفتحت حركة حماس خلال تلك الفترة على النافذة القطرية والتركية لعل كلا الطرفين ينجحان في إدخال حماس في المجتمع السياسي الدولي. وتم لاحقا دخولها في الفلك الإخواني بعد وصول الإخوان إلى السلطة في مصر. ومن هنا فإن قيادتها التي حاولت الظهور بمظهر الاعتدال اندمجت في المحور السياسي لكي تكتسب شرعية سياسية كما أسلفنا. ولكن دوما تتغير السياسة وفق المتغيرات، ولذلك فإن الانقلاب على حكم الإخوان في مصر رغم وصولهم للحكم عبر صناديق الانتخابات أظهر لحركة حماس أن صناديق الانتخابات ليس هي الوحيدة التي تمنح القيادة والشرعية للحكم والبقاء في الحكم. ومن هنا حدث التساوق بشكل أكبر بعد زيادة حصار غزة من الحكومة المصرية نحو حكومة توافق وطني. ولكن تعثر المصالحة ووقوف حركة حماس في الميدان في الحرب الأخيرة، وزيادة الضغط الإعلامي والقضائي المصري دفعها إلى قلب الطاولة.
ويعني قلب الطاولة ابتعادها عن المحور المعتدل وعودتها ثانية لمحور المقاومة وهي إيران وحزب الله وسوريا، وهذا يعني أن حركة حماس سوف تجنح للتصعيد في المرحلة المقبلة. وهذه يشكل إحدى انعكاسات التقارب الحمساوي الإيراني. بمعنى أن حركة حماس قد جربت الانضمام للنظام السياسي الفلسطيني ولم يتح لها المجال حيث برزت محاولة الانقضاض عليها منذ الأيام الأولى بعد الفوز وجاء ذلك على لسان السيد محمد دحلان الذي نقل عنه قوله " سنرقصها خمسة بلدي"، وما تلى ذلك من صراع ونزاع. ومن هنا فإننا نتوقع أن يكون التقارب الحمساوي الإيراني على حساب التقدم في المصالحة. فالتيار الطاغي في حركة حماس الآن هو التيار المتشدد بقيادة الدكتور محمود الزهار الذي نقل عنه قوله " سوف أقص يدي إن نجحت المصالحة". ولذلك فإن التقارب مع إيران سوف يعني عدم إيلاء المصالحة أهمية كبيرة كما كان قبل العدوان الأخير على غزة، وتوقيع اتفاق الشاطئ، وتشكيل حكومة التوافق. كما أن ذلك يعني تراجع علاقات حماس أكثر فأكثر مع المملكة العربية السعودية الذي يسعى ملكها الجديد إلى تشكيل تحالف سني عربي تركي في مواجهة المحور الشيعي الإيراني. ومن هنا يمكن أن يكون تقارب حماس مع إيران على حساب تقاربها مع تركيا وتشهد العلاقات الحمساوية التركية تراجعا. ولكن من جهة أخرى نرى أن تقارب حماس وإيران قد يكون تكتيك حمساوي أكثر منه إستراتيجية بمعنى أنها تحاول الضغط على النظام الفلسطيني والمصري والسعودي أنه إذا لم يتم استيعاب حركة حماس في اللعبة السياسية القائمة فإن البديل المطروح أمامها هو التحالف مع إيران وحزب الله ثم لاحقاً النظام السوري. وهذا ربما يجعل القيادة الفلسطينية والمصرية والسعودية تسعى لإرضاء حماس وتخفيف الضغط عليها. ولذلك تبقى كل السيناريوهات قائمة.
بقلم/ د. خالد صافي