بقلم عيسى قراقع
الزهور تنمو في المقبرة أيضا:
بهذه العبارة التي تتقاطع فيها المفارقة مع الأمل، يفتح الشاعر الكاتب المتوكل طه أفقاً جديداً للكتابة في زمن الإبادة، في روايته "أخبار نصف جيدة"، ونصوص "دم النار"- توقيعات على جدران غزة- ،لا يكتفي المتوكل بإدانة القتل والجريمة، بل يحول اللغة إلى جبهة مقاومة، يواجه فيها الجلاد والقاتل ليس بالبندقية فحسب، بل بالمعنى.
في زمن الموت المعلن، تتحول اللغة إلى طوق نجاة وفعل تحرر، وفي ظل الإبادة والتطهير والقهر، تتحول الكتابة إلى شهادة، إلى لعنات معلقة على جدار الصمت.
لقد حررت غزة العالم،
كما فتحت قضايا الظلم في كل القارات
وكلامي عن غزة لا يحررها
بل يحررني،
فغزة اسم لآلهة الوجود
وغزة أول تجربة للخلود
وغزة ستكون وردة حمراء
وأكبر من البستان،
يا الهي العظيم، هل هذه غزة؟
المتوكل طه يرسم خريطة من ثلاث طبقات متراكبة للجحيم: جحيم غزة، جحيم دانتي، وجحيم الزنزانة، هذه الطبقات لا تتوالى زمنيا، بل تتقاطع في نصوصها كشظايا، وكأسئلة مفتوحة في وجه العالم.
لقد صاغ دانتي في الكوميديا الإلهية، تسع دوائر للجحيم بوصفه منظومة أخلاقية لمعاقبة الآثمين والمجرمين، لكن جحيم غزة عند المتوكل لا يحتكم لأي منطق أو حدود، لا أحد يعاقب ولا أحد يسأل، كأن المتوكل يعيد تعريف الجحيم ولا ينتظر يوم القيامة حتى تطبق العدالة، لأن القيامة حدثت فعلا ولم يرها أحد.
إذا كان جحيم دانتي ينتمي إلى الأدب، فجحيم المتوكل ينتمي إلى السياسة، إلى الدم، إلى التاريخ، وهو يواجه الخذلان العالمي ويثير سؤال المعنى: أين الله؟ أين العدالة؟ أين الإنسان؟ صيحة وجودية في وجه الغياب الإلهي.
غزة مدينة بلا مدينة:
غزة في نصوص المتوكل فكرة انفجرت على هيئة تراب، وتبعثرت بين من بقي من الملائكة وأجنحة الأطفال وهم يبحثون عن الخبز والماء والوقت، وغزة لا ترى من نافذة بل تسمع من شقوق الجدران، ومن العظام المطحونة في المقابر الجماعية، هناك تشم رائحة القصف والنسف، وتقرأ من عيون الأمهات اللواتي يرضعن الحليب من أثدائهن اليابسة.
يصرخ المتوكل: غزة مدينة بلا مدينة، غزة ليست جحيما، بل هي ما بعد الجحيم، غزة ليست مأساة، غزة هي السؤال بحجم الإبادة: ماذا يعني أن تكون إنسانا؟
الفلاسفة كتبوا عن الوجود والعدم، أما في غزة فالعدم نفسه يتساءل كيف ما زالت هذه المدينة تنبت في حطامي؟ حقيقة تمشي بين الأسطورة، تركل الموت وتكتب الحياة على الحجارة، فمن لوح الحروف في دفتر غزة خرج المسيح إلى الطرقات، فأخذه الأطفال إلى حارة قريبة ليرى دمه هناك.
الطريق سالك بين غزة والسماء:
يا متوكل: لم أكتب هذا في دفتري، يقول دانتي، لم أر في الجحيم أما تنام على قبر طفلها، لم أر رؤوسا تقطع وترسل لتزيين قصور الأباطرة وجنرالات الاستعمار، لم أر طحينا يخبز بالدم والأشلاء.
يا متوكل: المسيح في القدس، ولكن الجلجلة في خان يونس، والآن أعلن أن غزة إلهة البأس، ولا يمكن هزيمة الآلهة، لقد كتبت الكوميديا كخيال مسرحي أخلاقي، أما أنت فتكتب عن شعب حقيقي، يحترق تحت شمس المستعمرين في العصر الحديث.
يا متوكل: لو عدت من العصور الوسطى وركبت حصانك الأجدل، ودخلت إلى غزة، لاعترفت أنني أخطأت في تصنيف الجحيم، فما هو في غزة ما لا يكتب، وما لا يحتمل، ولن يدرك أحد معنى الجحيم حتى يرى أمه وأولاده وذكرياته في النار أو في الغبار، ولن يعرف أحد كيف يخرج الأسير من السجن هيكلا عظميا معذبا ومغتصبا ومسلوخا، ويجد أن طريق الحرية سالك بين غزة والسماء.
كل الرايات في غزة إلا البيضاء:
يتحول جحيم السجن في نصوص المتوكل طه إلى مختبر لإنتاج المعنى في مواجهة العبث، يحاور السجان والمحقق والظلام والجدران ومنظومة القمع الصهيونية، يقول للمحقق: اليد القوية مغرورة وستفقد أصابعها، وستخلعون الشوك الذي غرزتموه في أقدامنا بأسنانكم، هذا الجحيم المرعب ينتج أطفالا أقرب إلى القنابل الموقوتة، وغدا ستدل العشبة الناس على المقبرة أو الزنزانة الغامضة.
أيها المحقق: لقد أخرجتم الوحش من خلف قمصانكم، ربما ينهشنا لكنه سيأكلكم، كيف سيتصرف أطفال غزة عندما يكبرون؟ وكيف سيتصرف الأسرى الخارجون من معسكر "سدي تيمان"؟ وذاكرتهم ترغي بكل ما عصف بأذهانهم ووعيهم ومداركهم من موت وإذلال وتكسير وبشاعة وانحطاط؟ سيتحول كل هذا إلى غضب ينفجر في وجوهكم، رغم التربة المالحة المغموسة بالدم والشظايا والإسمنت والجثث.
رغم السلاسل وشهوات الانتقام، والتهيج السادي في السجون، سنسقي حديقة الحلم، لا خيار إن لم نمتلك غزة لن نملك أنفسنا، فكل الرايات في غزة إلا البيضاء، ومهما كان الظلام المسلح شديدا، فإن الفجر يقف له بالمرصاد.
تفكيك النص والقضبان:
السجين في نصوص المتوكل ليس ضحية فقط، بل عقل واع يفكك النص المقدس للجلاد والقضبان وخرافات التوراة، فالزنزانة لا تتحول إلى فضاء سجني، بل إلى منصة فلسفية للمساءلة، إلى مسرح أيديولوجي يكشف أن الاحتلال لا يعيش فقط على القوة، بل على الوهم والاسطورة والخوف، غزة فزاعة الخائف، ومقصلة الفزع، يقول المتوكل وهو ينزع الرصاصة من عنق القصيدة.
نصوص المتوكل تمزج ببراعة خلطة فلسطينية فلسفية درامية من كافكا إلى دانتي إلى فوكو، إلى نيتشة، ومن جحيم السجن إلى جحيم غزة، إلى جحيم هدم الكينونة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تذبح غزة، وتذبح جنين، ويذبح وليد دقة في السجن، وما أوسع السجن، وما أكثر الأسلاك الشائكة.
في خلطة رمال غزة بالموت والأفكار، يرى المتوكل أن الحرية هي حالة وجودية من القوة والخلق الذاتي، وليست منحة تعطى من الخارج، فإذا اخترت الحرية ستحيا قبل أن تهرب إلى الموت يقول المتوكل، فمن شمس غزة يتطاول ظلي، ومن شعاعها أفهم العتمة، انتظروا سيتسع الحريق، ويمتد الطوفان، قليلا من الصبر، فالنصر خلف الباب، وفي الزنزانة أشعر بأنني كالرسام، أريد أن أعيد خلق الأشياء من جديد.
أين أنت يا غرامشي؟:
الصمت ليس حيادا، بل موقف يرقى إلى الخيانة، فالسكوت على الإبادة هو فعل تواطؤ، وفي هذا الإطار تتقاطع نصوص المتوكل طه مع فكر سارتر، الذي رأى أن كل لا موقف هو موقف بحد ذاته.
أين دور زملائي المثقفين والإعلاميين من هذه الجائحة، الإبادة؟ يتساءل المتوكل فالمثقف المهزوم هو الذي غطى مواقف المخروسين والمتخاذلين والمشككين.
يعترف المتوكل بأننا محاطون بمثقف ما بعد الاحتلال، أغرقنا بدعواته ومفرداته التي تحثنا على التعايش والتطبيع باسم السلام، تخلى عن مفردات المقاومة والتحرر والوحدة والمواجهة.
إن لم نحمل الكلمة كسلاح سنموت بصمت أكثر وحشية من الموت نفسه، فالصامتون امام المذبحة شركاء اصيلون في المجزرة، أين أنت يا غرامشي؟
فلسفة الوعي العنيف ويقظة السؤال؟
المتوكل في نصوصه: يقول المثقف في زمن الإبادة والفظاعة لا يطلب السلطة أو الوظيفة، لا يحتفل بالنصر، بل يوقظ السؤال، وهو الذي يرى في الجرح مكاناً للكتابة، وفي الخراب أرضاً للبذور، المثقف المقاتل ليس قديساً، بل مخلوق هش بعينين مفتوحتين في العاصفة، لا يطلب اليقين بل يحرس القلق.
إن المتوكل طه في نصوصه يؤسس لفلسفة الأمل العنيف، الأمل الذي لا ينتظره المثقف بل يصنعه بالقلم، بالصوت بالريشة، بالأغنية، بالفعل وبالخيبة أحياناً لكنها خيبة ذات وعي لا استسلام.
الكاتب المقاتل عاشق لا يراوغ، لا يتراجع ولا يكتب ليصبح مشهورا، بل يشعل شرارة، لا يقبل أن يكون مجرد ناسخ ومسحج، بل يصبح مناضلا ضد القبح واللا معنى.
في غزة يكتب الشعراء على الحيطان، لا الأوراق، والنثر يدون بالدم، لا بالحبر، والمعنى ينقش على الجثث لا في الكتب، اسألوا الشهيد الشاعر سليم النفار، والفنانة الشهيدة محاسن الخطيب، اسألوا الشهيد الفنان فتحي غبن، والفنانة الشهيدة هبة زقوت، اسألوا حارس أرشيف غزة البصري الشهيد مروان ترزي، كل هؤلاء وغيرهم، كتبوا غزة بأرواحهم، ليظلوا أكثر من مجرد أرشيف، لقد عبروا دم النار إلى الحياة.
الحقيقة العارية:
المتوكل طه في نصوصه ينظر إلى السجن كرمز للاغتراب القسري، بينما الإبادة الجماعية تمثل اغترابا وجوديا شاملا، يحول الإنسان إلى لا احد، ويرى شعريا ونثريا، أن الإنسان الفلسطيني لا يقتل مرتين فقط ، بل يقتل في الزنزانة بإلغاء فردانيته، ويقتل في غزة بإلغاء شعبه.
وفي كلا الحالتين: السجن - غزة، لا يراد فقط تقييد الجسد أو قتله، بل محو الهوية، فالمتوكل يربط بين الاسرى الذين يسلبون من اسماءهم، والقتلى في غزة الذين يدفنون كأرقام بلا وداع، وهذا ما يذكرنا باوشفيتز والمحرقة، حيث كان الهدف محو الاسم والقصة، وهذا هو مفهوم الحقيقة العارية الذي تحدث عنه الفيلسوف اغامين، الفلسطيني سواء في الزنزانة، أو تحت القصف، يعرى من انسانيته، ليصبح مادة قابلة للتصفية أو الإلغاء، وهو القائل: لا ماء ولا هواء ولا دواء، لا رجال ولا نساء، لا أشجار ولا شوارع ، لابيوت، غزة بقايا في فم التمساح.
المتوكل يمارس فلسفة من نوع خاص: فلسفة النجاة بالكتابة، السجن ليس فقط جدرانا، وعزة ليست فقط جغرافيا، كلاهما رمزان لمعركة الكينونة ضد الابادة، أنه بكلماته يربط بين الفرد المنسي، والشعب المحاصر، بين القيد الحديدي والصاروخ الذي يهدم البيت، ليقول:
ثمة دبيب في رحم الشوارع
وثمة نبض يخفق في الجدران
وثمة انفجار قادم في كل مكان
بدأ من القدس ال جنين
وتوقف في غزة
لكن صداه سيكون في المرايا القريبة والبعيدة.
غزة الشاهد الاخير:
في كتابات المتوكل لا تظهر غزة كمجرد بقعة مقاومة، بل تتحول الى كائن فارق يشبه الوجود الاصيل عند الفيلسوف هايدغر، الوجود الذي لا يخاف من الموت، بل يواجهه، ويولد منه، غزة عنده لا تعيش بل تصارع، وبهذا تتجاوز تعريف الإنسان المعاصر كمستهلك، كخائف، كمجرد فرد، أنها ليست مكانا، وانما تجربة وجودية صافية عارية، لا يحكمها الا الصدق في أقصى درجاته، كينونة تتأسس بفعل المقاومة لا بفعل البقاء، غزة هي المكان الفائض عن الالم.
المتوكل يلامس فلسفة ما قبل الفكر، حيث الفعل في غزة ينتج المعنى، لا العكس، الواقع يلد النظرية كما قال ماركس، وهنا تظهر غزة ككائن فلسفي يجمع بين جيفارا الخارج من النصوص الى البنادق، وزارادشت- القيم الجديدة- ، وفانون- الهوية في قلب القهر، وهذا ما يجعلها موقعا شبيها بنقطة الصفر، حيث يعاد انتاج كل شيء: اللغة، المعنى، القيم، وحتى ما يفترض أنه إنساني.
المتوكل لا يصف، بل يسائل، لا ينحاز فقط، انه يقيم محكمة للعالم، باستخدام غزة الشاهد الاخير، يقول: ما يجري في غزة خارج كل شيء، وشاهد على سقوط كل شيء، لكنه راكم السخونة في شرايين الشوارع من حوله، وسترون انفجار الميادين بعد قليل.
تبدو غزة في نصوص المتوكل كنهاية العالم القديم، لا مال، لا مؤسسات، لا فرص، لا حيل لغوية، فقط الصدق، والدم، والانتظار، والصمود.
المتوكل لا يرى غزة تشتكي، بل تفضح، يرى شعبها لا ينهار نفسيا، بل يخلق هوية عبر القهر، وهذا صميم فكر فانون. في معذبو الارض: أن العنف حين يمارس على الضحية باستمرار، ينتج هوية جديدة، الإنسان المتمرد، وتعيد كتابة العلاقة بين الضحية والجلاد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت