بسرعةٍ كبيرةٍ وبديهةٍ سريعةٍ، وإجاباتٍ حاضرةٍ وردودٍ جاهزةٍ، وتلقائية طبيعية، وعفويةٍ بسيطةٍ ساذجةٍ، يستخفون بها العقول، ويضحكون بها على الناس ويسخرون منهم، ويستهينون بتفكيرهم، ولا يعبأون بمشاعرهم، ولا يبالون بعواطفهم الحزينة والمتألمة، ويعتقدون أنهم بهذا ينجحون في تبرير فشلهم، أو يحسنون صنعاً في بيان عجزهم، وأنهم يقولون الصدق ولا يكذبون، ويشهدون بالحق ولا يفترون، ويقولون الحقيقة كلها ولا يخفون عن الشعب شيئاً منها، ظانين أنهم بهذا يخففون عن الشعب، ويسرون عنهم، ويعزونهم بالمصاب الذي نزل بهم، وبالهزيمة التي حلت عليهم، أو أنهم يبرؤون أنفسهم من الجريمة، ويعفون حالهم من المسؤولية، ويلقون باللائمة على غيرهم، ويحملون أسبابها لسواهم، ويطلبون من الشعب أن يؤمن بهم ويصدقهم.
يعزو قطاعٌ كبيرٌ من المسؤولين العرب هزائمهم ونكساتهم، وعجزهم وفشلهم، وضعفهم واخفاقهم، إلى التآمر الدولي، ويحملون أطرافاً خارجية، ودولاً أجنبية، وجهاتٍ معادية، المسؤولية الكاملة عما أصابهم ولحق بهم، ويتهمونهم بأنهم تآمروا عليهم، وتحالفوا مع عدوهم، واشتركوا في ضربهم، وتعاونوا في إلحاق الهزيمة بهم، وأنهم كانوا السبب في إرباك الشوارع، واضطراب الجيوش، وتردد القادة، وفساد الأنظمة والأجهزة، وضياع الأرض، ونهب الثروات، وسرقة الخيرات، وتهريب الآثار، وانتشار المخدرات، وانهيار الأسواق، وتردي الاقتصاد، وارتفاع مستوى البطالة، وخفض مستويات الانتاج، وغير ذلك من العيوب الكثيرة التي تنخر في جسم الأمة كالسوس، وتقضم خيراتها كالفئران.
يحلو للكثير من العرب أن يصف كل ما يجري في منطقتنا العربية بأنه منظمٌ ومرتبٌ، وأنه معدٌ مسبقاً، وأن الكيان الصهيوني له يدٌ في كل ما يجري، وله سهمٌ في كل ما يحدث، فلا شئ يقع في المنطقة دون إرادته أو تدخلٍ منه، فهو المستفيد من كل هذه الهزائم والنكسات، وهو الذي يخطط لها ويعمل من أجلها، وله في سبيل ذلك عيونٌ وعملاء، وأيدي خفية وعيونٌ متلصصة، وأدواتٌ قذرة، ووسائل خبيثة وطرق مخادعة، يمكنونه من فعل من يريد، والوصول حيث يشاء، وكأنه سوبرمان أو قوة أسطورية خيالية، قادرة على فعل المستحيل، والقيام بالخيال، دون أن يجد في طريقة قوة تعرقله، أو مقاومة تهزمه، أو إرادة تمنعه.
لعل الكيان الصهيوني حمالٌ لكل هذه التهم، وجاهزٌ لاستيعابها، فهو كما يقول المثل العربي "جسمه لَبَّيس"، وليس عنده عيبٌ في أن تنسب إليه، ولا يضيره أن يتهم بها، كما أنه ليس مضطراً للدفاع عن نفسه، والبراءة من هذه التهم التي تلقى عليه جزافاً، بل ربما أنه يشعر بالقوة والزهو، والعجب والخيلاء، عندما يرى أن نفوذه كبير، وأثره واسع، وتدخلاته مجدية، وأنه قادر على التأثير عن بعد، والتغيير بالريموت دون أن يتدخل بنفسه، أو يكون مضطراً لدفع فواتير من حسابه، أو كما تقول الأمثال العربية المعبرة "صيت غنى ولا صيت فقر".
يعرف القادة والمسؤولون العرب أنهم يكذبون ويفترون، وأنهم يدعون ويخدعون، وأنهم يهربون من المسؤولية بإلقاء التهمة على الكيان الصهيوني، الذي لا نبرؤه من كثيرٍ من الجرائم، ولا نطهر تاريخه الدموي، ولا نبيض صفحاته السوداء، ولا نمنحه شيكاً بالبراءة على بياض، فهو مجرمٌ موغلٌ في الإجرام، وعدوٌ لا يبالي بالقتل والخراب، ولا يعبأ بالافساد والاضرار، ولا يتوقف عن التجسس والاختراق، وسرقة المعلومات والتدخل في المعطيات، فهذه طبيعته، وهي مهمته، وهذا واجبه الذي يعتقد به، وهو لا يخفي جرائمه، ولا يتستر على أفعاله، بل يباهي بها أحياناً ويفخر، ويعلن عنها ولا ينكر، ويرى أنه يدافع عن نفسه وشعبه، ويرسي قواعد كيانه ويقوي أركانه، ويحصنه ضد المحيطين المعادين له والمتربصين به.
الحقيقة أننا نحن الذين نتحمل المسؤولية عما يلحق بنا ويصيبنا، ونحن الذين نتآمر على أنفسنا ونضر بعضنا، ولا علاقة للكيان الصهيوني بجرائمنا وأخطائنا، ولا شأن له بانحرافنا وضياعنا، سوى أنه يرشد بعضنا، ويربط آخرين، ويوجه عملاءه ويستخدم أتباعه، ويأمرهم ويطلب منهم، ويسهل طريقهم ويعبدها لهم، ويساعدهم في الصعود بشطب المنافسين، وإزاحة المعوقين، وإقصاء المخلصين، وإبعاد الوطنيين، ممن لا يرضى عنهم، ويرى فيهم أنهم يناهضون مشروعه، ويعارضون سياسته، ويقفون في وجه مخططاته، ولا يقبلون أن يعملوا معه وفق تعليماته وتوجيهاته، كونهم فعلاً يخلصون لأوطانهم، ويصدقون مع شعوبهم، ويضحون في سبيل مبادئهم، ولا يفرطون أمام مغريات العدو بقيمهم الوطنية، ولا ثوابتهم العقدية.
آن الأوان أن نتساءل بجديةٍ ومسؤوليةٍ، هل أن الكيان الصهيوني مسؤولٌ في بلادنا العربية عن القمع والكبت، وعن القتل والغصب، والسرقة والاحتيال، والجشع والاحتكار، والرشوة والمحسوبية، والغش والخداع، والكذب والتزوير، وأنه المسؤول عن الفقر والتخلف، وعن الأمية والجهالة، وعن القذارة والوساخة، وعن القمامة وانتشار الحشرات والقوارض والفئران، وعن انتشار الأمراض وشيوع الأوبئة، وعن جنون السيول وهطول الأمطار، وفيضان المجاري، وهو المسؤول عن البيوت المتصدعة، والمباني المنهارة، والمساكن العشوائية، والبيوت المقابر، ونقص المقابر وضيق المدافن، وأنه المسؤول عن الركود الاقتصادي والفساد الاجتماعي، وغياب فرص العمل، وتهريب الكفاءات وجلب التفاهات، وعن انحراف المسؤولين وظلم الحاكمين.
أم أنه المسؤول عن فساد القضاء، وعفن القضاة ورهن ذمتهم وبيع ضمائرهم، وعن بيروقراطية المحاكم، والأحكام الجائرة القاسية، وتنامي الجريمة، وانتشار الرذيلة، وحرمان المواطنين من حقوقهم، ومحاسبتهم على غير جرائمهم، وتلفيق التهم لهم، ودفعهم للهروب والهجرة، والفرار والغربة، والضياع والتشرد، أم أنهم مسؤولون عن غرق السفن، وموت المهاجرين، وانتحار اليائسين، وانحراف الناشئة، وفقدان الأجيال للبوصلة.
إننا المسؤولون عن كل هذه الجرائم، وعدونا منها براء، وإن كان يتمناها ويعمل لأجلها، ويسعى لمثلها وأكثر، ولكننا نحن الذين نتحمل المسؤولية وحدنا، إذ ما الذي يمنعنا أن نصلح المفاسد، وأن نسوي المظالم، وأن نعيد الحقوق، وأن نمكن المواطنين من الاستمتاع بحقوقهم، والتمتع بحرياتهم، والعيش بعزةٍ وكرامة، والاستفادة من خيرات الأمة، ومقدرات الأوطان، في أن يكون لكلٍ منهم فيها مسكنٌ ومأوى، وعملٌ ومستقبلٌ ووظيفة، لتتحقق حريته وكرامته، ويكون فيها عزيزاً كريماً مصاناً غير مهان.
لا نعيش الوهم، ولا نلقي باللائمة على غيرنا، ونتهمه بالتآمر علينا، فنحن الذين نتسبب في كل هذه الجرائم وفي غيرها، ونحن الذين نصنع الهزائم، ونرضى لأنفسنا بالخسارة، نحن الذين نخدم عدونا ونجعله يستفيد منا، ونحن الذين نعطل قدراتنا، ونفشل شبابنا، ونقهر أجيالنا، ونخرب بلادنا، ونفسد حياتنا، ونسمم مستقبلنا، ثم ندعي أن العدو هو الذي يعيث فساداً في بلادنا، ويخلق لنا الأزمات، وينصب لنا الفخاخ، وأنه هو الذي يدخل بيوتنا، ويتسلل إلى غرف نومنا، ويهتك أسرارنا، ويفضح سرائرنا، ويظهر عيوبنا، ويكشف عن مخازينا، ويقودنا إلى الهزيمة، أفلا نكف عن هذه ونستحي، ونقر بعجزنا نحن ونعترف.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي