قراءة نقدية في مستقبل ثورات الربيع العربي

بقلم: د. مصطفى اللداوي

بات معروفا في ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي أن أي من الأحزاب التقليدية سواء العلمانية أو الدينية لم يحدد ساعة الصفر ولم يكن المحرك الأول لها، وأن صانعي الثورة الأوائل كانوا من طلبة الجامعات غير المؤطرين في أطر تنظيمية سواء في الأحزاب التقليدية أو في الأطر النقابية التي كانت قائمة. وأنهم لم يكونوا من الطبقة الفقيرة المسحوقة لنقل أن المهمشين هم من فجروا الثورة، حيث أن هؤلاء الطلبة كانوا من الطبقة الوسطى التي تستطيع إرسال أبنائها للدراسة في الجامعات وإجادة التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة في الاتصالات سواء ما يتعلق بالشبكة العنكبوتية " الانترنت"، وما يتضمن ذلك من وسائل التواصل الاجتماعي في الفيس بوك والتوتر وغيره. وهذا ما دفع المحللين في بداية الثورات أن يطلق عليها ثورة الفيسبوكيين. كما أن البعض قد شكك في هؤلاء واعتبرهم صنيعة الغرب، وأنها من خلفية المؤسسات الغير حكومية التي تتبع في أجندتها للجهات الممولة. بل وصل آخرون إلى اتهامهم بأنهم قد تلقوا دورات في وسائل الصراع السلمي. ونحن في هذا المقال لسنا بصدد تناول كل هذه الجوانب بالتفصيل لأن ذلك يحتاج لدراسات أكاديمية معمقة. ولكن ما نحن بصدد الحديث عنه هو أن هؤلاء الشباب هم من فجروا الأحداث في دول الحراك العربي، وأنهم بذلك تجاوزا النمط التقليدي للثورات التي يكون لها قيادة محددة تتمثل في الشخص القائد الملهم، والذي له رؤية ورسالة وشعارات وغيرها، ويمتلك أدوات التحريك اللازمة للانطلاق بثورته سواء عناصر من الجيش والشعب كما في ثورة عرابي أو عناصر شعبية سياسية كما في ثورة سعد زغلول، أو ثورات مناطقية محدودة كما شهد بذلك التاريخ العربي. إن ما حدث أن ثورات الربيع العربي تجاوزت الفكر النمطي كما قلنا فهي ثورة فئات عدة وذات توجه قيادي جماعي، وشعارات جماعية، وأهداف جماعية. ومن هنا شكك البعض من الكتاب والمحليين في كونها ثورات لأنه انطلق في تحليليها من الصورة النمطية المرسومة في ذهنة للثورات التقليدية.

وحيث إننا انطلقنا في رؤيتنا بأن قادة الثورات الأوائل كانوا من الطلبة غير المؤطرين ضمن الأحزاب التقليدية القائمة فإن هؤلاء لم يمتلكوا الرؤية والتجربة الكافية لكيفية هدم النظام السياسي القائم والتفريق بين هدم النظام السياسي البوليسي وبين هدم الدولة. ولذلك وقع هؤلاء النشطاء فريسة الأحزاب التقليدية القائمة ولاسيما أحزاب الإسلام السياسي. فمن المعروف أن أحزاب أو جماعات الإسلام السياسي لم يفجروا الثورات أو يشاركوا بها منذ أيامها الأولى وأن ذلك يعود لعدة أسباب لن نسعى لتفصيلها ولكن أهمها أن قياداتها قد تعرضوا لتجربة المنافي والسجون ولذلك أصبحت لهم تجربة حذرة في التعامل مع الأحداث، ولا يرغبوا في المشاركة بثورة في انطلاقاتها الأولى حتى لا يتعرضوا لإحباط ويتعرضوا للملاحقة الأمنية، وأيضاً إدراكهم بضرورة فهم من يقف وراء هذه الثورات وأهدافها وغير ذلك، وفوق ذلك أن هذه الثورات ذات قيادة مركزية تتطلب التواصل والاجتماع واتخاذ القرار وغير ذلك مما يفقدها جرأة وتهور وسرعة المشاركة في الثورات في بدايتها. ومع ذلك لا نستطيع أن ننفي أن حركات الإسلام السياسي وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين سواء في مصر أو ليبيا أو تونس أو اليمن قد شاركوا بفاعلية في الأيام اللاحقة وكانت لمشاركتهم دورا فاعلاً في إسقاط الأنظمة القائمة.

ولكن بالعودة لفئة الشباب الأوائل الذي خاضوا غمار الثورات منذ بدايتها فإنهم لم يمتلكوا كما قلنا خبرة تنظيمية في عملية هدم النظام القائم، ولم يستطيعوا كونهم من خلفيات طبقية وأيدلوجية متنوعة أن يكونوا حزب أو إطار سياسي يشكل العمود الفقري للانطلاق للمرحلة اللاحقة لسقوط رأس النظام، ولذلك وقع هؤلاء ضحية أحزاب وتنظيمات لها تجربتها التنظيمية الطويلة والتي نجحت بقطف ثمار الثورة بفعل قدرتها على التعبئة والحشد والجانب التنظيمي وأبعدت عن المشهد السياسي قادة الثورة الحقيقيين من الشباب الجامعي ذوي الطموح السياسي نحو الحرية والكرامة والعدالة ولكنه يفتقر إلى الخبرة في التنظيم والأداء السياسي سواء في معركة الهدم أو معركة البناء. ومن هنا وقع هؤلاء الشباب ضحية قوى تقليدية ذات خبرة في تجيير الأمور لصالحها والإسراع بها نحو الاستحواذ والهيمنة. ولم تستطع فئة الشباب إفراز قيادة شبابية تخوض غمار الانتخابات برؤية واضحة ورسالة قوية وبرنامج عمل متكامل. فوجدنا أن من قاد الانتخابات هي قيادات الحركات الإسلامية التقليدية أو فلول النظام السابق مثل أحمد شفيق في مصر. ولم تنجح قيادات اليسار أن تحظى بالنجاح المطلوب لتراجع تيار اليسار منذ عقود أمام تقدم حركات الإسلام السياسي. وبقيت الساحة في مصر للفلول وللإخوان المسلمين. وهذا ما حدث في تونس من وصول الفلول للحكم لاحقا ممثلا بالسبسي.

وفي ظل عدم قدرة الشباب قادة ووقود الثورة الحقيقيين من تنظيم أنفسهم في إطار جديد يقدم للشعب رؤية واستراتيجية وبرنامج تم حرف هذه الثورات عن أهدافها التي رسمها الثوار الأوائل وهي إسقاط الأنظمة البوليسية القائمة وتحقيق الحرية السياسية والكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة. وهذا بالطبع أدى وساهم إلى تقدم القوى التقليدية والمؤسسات العسكرية لقطف الثمار وتجيير الثورة لصالحهم. ولذلك ساد الصراع بين أقوى مؤسستين في مصر تمتلكان التنظيم والتجربة الطويلة وهما الجيش وحركة الإخوان المسلمين. وتم خلال ذلك توظيف قوى الثورة الحقيقية في الصراع بين المؤسستين ثم إقصائها لاحقاً بعد وصول الإخوان إلى سدة الحكم حيث قاموا بإقصاء قوى الشباب عن المشهد السياسي. وأصبحت المواجهة الحقيقية تجري فعلياً بين المؤسسة العسكرية التي عاد الفلول للالتفاف حولها للتخلص من حركات الإسلام السياسي. وقام الجيش بتوظيف الخلافات بسبب سياسة الإقصاء التي مارستها قيادة الإخوان وبين الفئات الأخرى التي قادت الثورة في بدايتها واستمرت بالمشاركة بها حتى النهاية. وقام الجيش بالانقضاض على الحكم تحت ذريعة الحفاظ على الأمن والنظام. فالإشكالية كانت تكمن أن الإخوان المسلمين الذين يمتلكوا خبرة طويلة في التنظيم لا يمتلكوا مثل هذه الخبرة في الحكم، فقد قضوا الكثير من سنوات حياتهم في السجون والمنافي. كما أنهم يفتقدون لثقافة المشاركة حيث تربوا على ثقافة الولاء لأميرهم الديني الحركي وليس ثقافة الانتماء لوطن. وتربوا على عداء فكر الأخر وعلى نظرية " من ليس معنا فهو ضنا". ولذلك لم ينجحوا في صياغة حالة تشارك مع قوى الثورة الأخرى وحاولوا إقصائها. فوقع الأثنين ضحية الجيش والفلول في مصر، والفلول في تونس وإن كانت التجربة التونسية لا تزال أكثر نضجاً من الثورة في مصر.

إن عودة المؤسسة العسكرية للحكم يعني إجهاض الثورات والعودة بها للوراء حيث الأنظمة البوليسية الدكتاتورية وهذا يعني العودة للدوران في حلقة مفرغة بعيدا عن تحقيق الحرية السياسية والكرامة والعدالة الإنسانية. وهذا يتطلب عملية تقييمة من قوى الثورات، ومعرفة أين الخطأ والصواب من أجل إبقاء روح التغيير. وأن قوى الشباب التي قامت بالثورة وأصبح ربما لديها نضوج الآن لإعادة فهم الرؤية والرسالة وبناء عليه إعادة رسم الاستراتيجيات والبرامج والأدوات. فالثورة ليست مرحلة واحدة بل عدة مراحل فإن تم إجهاضها في مراحل معينة فليس ذلك نهاية المطاف. فمعروف أن تجارب الشعوب لا تقاس بسنوات قليلة كما هم البشر. ولا يمكن أن تقام ثورات وتنجز عملية الهدم والبناء في سنوات قليلة بل يحتاج ذلك لمعركة طويلة تتخللها صعاب وانتكاسات ولكن المهم أن القناع قد سقط عن الأنظمة البوليسية، وعقدة الخوف قد زالت في مواجهتها وهو ما يشكل الدافع لروح حقيقية تسعى للتغيير وعدم الانكفاء والعودة للوراء.

بقلم/ أ. د. خالد محمد صافي