يُحكى أن رجلاً كان أعمى كل حياته، فرجع له بصره للحظة قصيرة جداً, في تلك اللحظة وقع بصره على عرف ديك كان قريباً منه، ثم فقد الرجل بصره مرة أخرى؛ فكان بعد ذلك كلما وصفوا له شيئاً قال: "كيف هو عن عرف الديك؟" فالرجل لا يعرف من العالم حوله إلا "عرف الديك" وصار هذا العرف هو محور فهمه وتصوره للأمور.
ونحن حشرنا أنفسنا في زاوية ضيقة من التحليل الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية، وقمنا بربط كل مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية لاتفاقية باريس الاقتصادية ولقيود الاحتلال وسياساته التدميرية , وكأن السبب الرئيسي وراء تفاقم تلك الأزمات وانحدارها بعمق نحو الهاوية تعود فقط لذلك السببين رغم تأثيرهم الكبير في ذلك كونهم السبب الرئيس للأزمة البنيوية التي يعاني منها هيكل الاقتصاد الفلسطيني, ولكن لا يمكن النظر لتلك الأسباب بأنها فقط المسئولة بل يجب الخروج من قضية عُرف الديك والنظر بعمق وبآفاق واسعة , حيث أن هناك أسباب أخرى كانت ولا تزال سبباً لتردي الأوضاع الاقتصادية وتراجع الأداء الاقتصادي والاجتماعي في الأراضي الفلسطينية بل وحتى إمكانية انزلاقها نحو مزيداً من التهاوي, ومنها عدم نفاد سياسة اقتصادية منتجة ومتوازنة للسلطة الفلسطينية منذ إنشاءها عام 1994 تلك الموازنات التي تشكل الأجور والرواتب النسبة الأكبر من بنودها واعتماده بشكل رئيسي للتمويل على المساعدات والمنح الخارجية من جهة والسياسة الضريبية غير الفعالة " ضرائب المقاصة " من جهة أخرى, ورغم تزايد تلك الإيرادات إلا أن النفقات لا تزال ترتفع وتحقق الموازنة لعجز مالي يتزايد سنوياً , كيف لا والنفقات ترتفع بحيث لا يقابلها ارتفاعاُ في الإيرادات , ولا يمكن اعتبار الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية الراهنة بأنها أزمة مؤقتة بسبب حجز إسرائيل لأموال المقاصة, فالأزمة هي دائمة ومستمرة تعود بالأساس لتراكمات سابقة ناجمة عن الإفراط في النفقات وعدم انعكاسها على تحسين مستويات المعيشة لجُل الفلسطينيين الذين يعانون من الفقر والفقر الشديد, لقد تسببت التراكمات السابقة وحجز إسرائيل لأموال المقاصة والتي ترتبط بالعملية السياسية إلى تفاقم ذلك, تفاقم المشكلة المالية للسلطة الفلسطينية تظهر في عدم قدرتها على دفع الرواتب أو دفع جزء من فاتورة الرواتب( رواتب+ نفقات التشغيلية للوزارات) والتي تقترب من 200 مليون دولار شهرياً, وكذلك عدم قدرة البنوك الفلسطينية العاملة على إقراض السلطة خلال الشهور القادمة في حال استمرار حجز أموال المقاصة, فقدرة الجهاز المصرفي على إقراض السلطة باتت شبه معدومة وذلك لبلوغ ديونها 1.2 مليار دولار, إضافة ل 1.6 مليار دولار مستحقات لصندوق التقاعد و 500 مليون دولار للقطاع الخاص ومليار دولار ديون خارجية , هذه الديون الكبيرة للسلطة الفلسطينية والتي تزيد عن 4.8 مليار دولار تنذر بهاوية اقتصادية إذا لم تبحث السلطة الفلسطينية لحلول دائمة تتمثل بالنقاط التالية :
1- العمل على إنهاء الانقسام بين حركتي فتح وحماس, كونه أحد أسباب الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية وسبباً للتباين والاختلاف في تطبيق السياسات ومنها الضريبية, وإبراز أن جوهر الخلاف بين الحركتين يعود للصراع على السلطة بشكل رئيسي وليس لاختلافات جوهرية في البرامج السياسية وحتى الاقتصادية فكلاهما يطالب بدولة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967 ولنظام اقتصادي قائم على اقتصاد السوق وبسياسات أكثر محاباة لرأس المال على حساب المصالح المجتمعية, واستمرار الانقسام يعني استمرار إسرائيل في نهب الموارد الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة والتي تزيد عن 7 مليار دولار سنوياً, حتى أن قطاع غزة شهد 3 عدوانيات إسرائيلية في ظل الانقسام واستمرت إسرائيل في نهب غاز غزة واستمرار الاستيطان والتهويد, وتوجهت السلطة الفلسطينية للمنظمات الدولية ولم يلتزم المانحون بتعهدات تجاه إعمار قطاع غزة , ولم تلتزم الدول العربية بدفع شبكة الآمان العربية أيضا في ظل وبسبب الانقسام!!!
2- إعادة النظر في شكل الموازنة العامة التي تقررها, وتحديداً التركيز على البعد التنموي للموازنة وضرورة زيادة نصيب موازنة التنمية والتطوير بما يخدم ويعمل على تأسيس اقتصاد قادر على تعظيم المنافع المجتمعية في الأراضي الفلسطينية , وكذلك إحداث تقشف في بعض البنود بما لا يؤثر سلباً على الشرائح الفقيرة, وتقليل العجز في الموازنة والذي بلغ في العام 2014 حوالي 1.629 مليار دولار( قبل خصم المنح والمساعدات) من خلال تقليص نفقات الأمن وبعض النثريات ووضع حد أدنى للرواتب لا يقل عن 2800 شيكل وحد أقصى لا يزيد عن 7000 شيكل بما يقلل من التفاوت بين الشرائح المجتمعية في الأراضي الفلسطينية, وزيادة الضرائب المباشرة على الدخول ومنع التهرب الضريبي , حيث بذلك يمكن تقليل العجز وتحقيق مستويات أفضل في حال ما إذا تم استثمار الأموال التي تم توفيرها في دعم موازنة التنمية والتي بلغت عام 2014 حوالي 350 مليون دولار والتي مثلت 8.3% من إجمالي الموازنة.
3- إعادة النظر في بعض بنود اتفاقية باريس الاقتصادية ( رغم أن ذلك يحتاج لموافقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ), والتوجه نحو البعد العربي وتفعيل شبكة الآمان العربية المقدرة ب 100 مليون دولار سنوياً.
4- الإسراع في عملية أعمار قطاع غزة وأن تكون تلك العملية ذات بعد اقتصادي وتنموي.
وفي الختام : خلال العشرون عام الأخيرة ونحن لا زال عرف الديك محور اهتمامنا وفهمنا وتصورنا للأمور, لذى فعلاج المشكلة يتطلب أولاً تخطي مشكلة عرف الديك والنظر بعمق للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية القائمة وفقاً للإمكانيات والموارد المتاحة .
بقلم / حسن عطا الرضيع
باحث اقتصادي/ غزة