أمي شامخة ترتدي فستانا أبيض مطرز بالنقوش، وشعر أسود مغطى بالكوفية، ذاكرة مشوهة حاصرتها، وعزائم ضيقة خذلتها، وجدران عنصرية فصلتها ومنعت تواصلها، أسوارلا تشبه أسوار برلين، لأن برلين كانت عاصمة، وكان السكان ينطقون الألمانية، أما هنا، ففي قفص الأسوار شعب ينطق الحرية، وقرن من الزمان لم يردع الأصنام، ولم يوقظ النيام، وكأن فلسطين من بقايا النسيان.
في الغربة، كنت أستمع إلى بكاء المسنين وهو يتحدثون عن قراهم وبلداتهم ومدنهم، يتحدثون عن التين والزيتون والبرتقال، والزعتر والحياة الهانئة، حتى جاء الغزاة، حتى جاءت العصابات، حتى صمت العالم على مذابح الأبرياء، ومنح المجرم المعتدي جائزة الأرض، وطُلب من السكان وحبات الرمل والذاكرة أن تنسى كل الأشياء، فهذا الغريب المجرم يدعي أنه وريث الأرض من قديم الزمان، وزوروا التاريخ والأحداث والمعطيات، وسرقوا الصور والحجارة والأشجار والتراث وقالوا هذه لنا وهذه لكم، وما لكم محرم عليكم، وسنذيقكم الموت والحرق ان اقتربتم منه، ومن يومها تلك الطفلة البريئة تنظر وتنادي، من ينقذنا من هؤلاء، ولا مجيب.
قال الغرباء عن أمي أنها "الأرض الأسطورية"، وقالوا أيضا أنها "ديزني لاند" وقولوا أنها "أرض الأحلام"، وقالوا عنها "أرض الميعاد" وقدموا الدعوات المجانية وحلم الثراء لكي يملؤها بالملونين، ويطردوا جدي وجدتي ويحطموا فناء البيت ويحرقوا الأشجار، وزعموا على أن الأجيال ستنسى، وأن الجدران ستطلى وأن الشوارع ستتغير وأن القرى ستتحول إلى مصانع للبارود لصد الغزاة، أصبحنا في قاموسهم "الغزاة" .
صوت أمي كان دائما حاضرا بالدهشة، كلما سمعت "الليونة" في إعادة ذكر ليالي الموت والتشريد، وظنت أن "الخشونة" بل "الغلظة" لن تفارق الذاكرة، فهل أجيالنا تنسى، هكذا قرأت في مذكراتها، وفي صفحة كان عنوانها "خاب ظني" لم أجد أي كلمة بعد العنوان الكبير، وفي صفحة أخرى وجدتها قد كتبت عن القلق من حقيقة الجدية في طرد الغزاة "هم" ، وتقول لن اظلم أحد، فالجدية تعني الاستعداد، والإرادة، وحشد الذاكرة.
تساؤلات كثيرة، وبحث لا يتوقف، ومسؤولية وعبء كبير، وحلم العودة لا يتوقف، وأمانة الحلم تنقل من جيل إلى جيل، وصمت أن ينكسر، وصورة يجب أن تعمم، ومشاهد من الصراع الدامي يجب ألا تُنسى، ودوراننا حول العالم في شتات مريب يجب أن يكون نافذة نطل من خلالها على كل الأرض الأم فلسطين، كي لا ننسى، ولأن فلسطين ذاكرة ليست للنسيان، هكذا قرأت في صفحاتها الملطخة بالوجع والنكبة والمأساة والعذاب والانتظار والخوف .
أنا المعنى الحقيقي للعالم المترامي الأطراف، حبل السرة بين الوطن المغتصب وأبنائه الغائبين وأولئك المتجذرون في عمق التاريخ والباقون خلف الصمود يصنعون الأمل والإرادة والغد المشرق بزوال الاحتلال، كي يصل الصوت ويصل العائدين، ويلتحم الشوق بالشوق، والدمع بالدمع، والحلم بالحلم، والعيد بالعيد، والتضحية بالتضحية، ودم الشهيد بالأرض، وبسالة الأسير خلف القضبان، وفرحة الجريح حين الشفاء، وقهوة صباحية في كرم العنب البعيد، وما تبقى من أشجار الكينيا، واللوز، والبرتقال، سيكون اللقاء حتما بالرغم من الطرقات المكسرة والهواء الملوث بالغرباء، ولازالت حزينة لغربة الغائبين وتشتت الحاضرين وانقسامهم المنبوذ، هكذا عرَّفت أمي عن نفسها في البدايات المستمرة بلا توقف .
لك التحية يا أمي، فلسطين، وكل عام وأنت بخير، ورحم الله أمهات فلسطين، والباقيات الصالحات .
بقلم د.مازن صافي