رغم الاختلاف والخلاف بين حركتي "حماس" و "فتح" التي تقود منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، إلا أنه لم يصل يوماً حد الانقسام الدموي كالذي حدث عام 2007، فأضر الانقسام بالقضية الفلسطينية كما لم يفعل حدث آخر. وعلى مدار سبع سنوات مضت، فشلت جميع مبادرات الصلح في جسر الانقسام، مما عمق من آثاره السلبية على أصعدة عديدة. ورغم نجاح اتفاق الشاطئ في العبور باتجاه أول خطوات المصالحة، وذلك بتشكيل حكومة وفاق وطني، إلا أن تلك الخطوة لم تنه الانقسام، ويبدو أنها لم تنجح كذلك في بلورة مستقبل المصالحة، خصوصاً أن الاتفاق لم يستطع حسم العديد من الملفات الحساسة. ورغم تزايد التوجهات الجازمة بأن الخلاف بين الحركتين هو اختلاف فكري في الأساس، وأنه أحد الأسباب الرئيسة في حدوث الانقسام، وعدم نجاح المصالحة بين الحركتين بعد ذلك، إلا أن هناك من الأدلة والشواهد ما ينقض تلك التوجهات. فرغم اتساع الفجوة ما بين الفكر الديني الإسلامي والفكر العلماني عموماً، إلا أن الحالة الفلسطينية قدمت نموذجاً مختلفاً أعاد تقييم تلك المسافة بين الفكرين، وقدمها في إطار اعتبارات فرضتها تلك الحالة، وقد يكون على رأسها الجانب الوطني، فجاءت العلاقة بين الفكرين تحمل صياغة فكرية مختلفة عما هو متعارف عليه عموماً.
انبثقت حركة "فتح" من رحم جماعة الإخوان المسلمين، في ظل انحسار دور الجماعة في فلسطين خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي، فتأسست حركة "فتح" على يد عدد من عناصر المقاومة التابعة للجماعة. وعملت جماعة الإخوان بعد هزيمة عام 1967 وانتصار معركة الكرامة تحت قيادة حركة "فتح" في عدد من العمليات النضالية في منطقة غور الأردن. كما انضوى معتقلو "حماس" تحت إطار حركة "فتح" داخل السجون الإسرائيلية خلال الانتفاضة الأولى وحتى عام 1992، باعتبار أن حركة "فتح" هي الأقرب من بين التنظيمات الفلسطينية الأخرى إلى فكر "حماس".
وعلى الرغم من أن منظمة التحرير دعت إلى دولة فلسطينية علمانية، إلا أن حركة "فتح" التي تقود منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تنتمي فكرياً وحضارياً إلى الثقافة العربية والإسلامية، كما أن السلطة الفلسطينية تعتبر أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة ودين أغلبية أبنائها، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع. وتلتزم السلطة الفلسطينية بجميع المناسبات الدينية الإسلامية في مؤسساتها الرسمية، كما تقر دراسة مادة الدين في المنهج الدراسي لجميع مراحل التعليم.
ورغم اعتبار "حماس" الدين إطاراً مركزياً محدداً في فكرها، على أساس أنها ترتبط ارتباطاً أصيلاً بجماعة الإخوان المسلمين التي تشكل جذورها، حيث يعتبر إعلان قيام الحركة عام 1987 امتداداً لحقبة الجماعة في فلسطين، إلا أنها تعتبر نفسها حركة تحرر وطني إسلامي، يسبق الجانب الوطني الجانب الديني في فكرها. فالحركة نشأت في الأساس بهدف وطني، وجاء انطلاقها كجناح مقاوم لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين مع تفجر الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وذلك خلافاً لحركات الإسلام السياسي الأخرى التي نشأت خارج حدود فلسطين، وتأسست لأسباب دعوية أو إصلاحية سياسية أو اجتماعية. كما تضع حركة "حماس" الأولوية للتحرر على إقامة الدولة الإسلامية، فإقامة الدولة تأتي كثمرة ونتيجة التحرر وفق الحركة، وهو الأمر الذي يميزها أيضاً عن غيرها من حركات الإسلام السياسي الأخرى والتي تعتبر إقامة الدولة الإسلامية أهم أولوياتها وأسمى أهدافها. فلم تعتبر الحركة أن من أولوياتها التفكير في طبيعة الدولة الفلسطينية الناشئة، وأكدت عدم سعيها إلى إقامة إمارة أو كيان إسلامي بعد الانسحاب الأحادي الجانب للاحتلال من قطاع غزة عام 2005، معتبرة أن ذلك الانسحاب مجرد خطوة في طريق تحرير كل فلسطين. كما أن "حماس" لم تحكم ضمن معايير الدولة الدينية بعد استيلائها على الحكم في قطاع غزة في أعقاب الانقسام، على الرغم من توجهها إلى تعزيز القيم الإسلامية في المجتمع الفلسطيني من خلال عدد من المظاهر.
إلا أن ذلك لا ينفي تطلع حركة "حماس" إلى إقامة الدولة الإسلامية، لكن حدود الدولة الإسلامية التي تدعو إلى تحقيقها تقع ضمن حدود الأراضي الفلسطينية فقط، وليس في حدود الدولة الإسلامية الكبرى التي تدعو إليها حركات الإسلام السياسي الأخرى. كما تبقى طريقة وصول الحركة إلى الدولة أقرب إلى المنظور الغربي منه إلى الرؤية الإسلامية عموماً، في مقاربة متقدمة تعد فيها الحركة الأسبق بين أقرانها. فحتى بعد الوصول إلى التحرر، لم تدعُ "حماس" إلى فرض الدولة الإسلامية في فلسطين بالقوة، فاعتبرت أن الحكم في فلسطين يجب أن يقوم وفق رأي الغالبية. وتعد الحركة نفسها سنداً وعوناً للاتجاهات الوطنية العاملة في الساحة الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين، حتى اليسارية منها، كما تعتبر جميع الفصائل الفلسطينية شريكة في الساحة الفلسطينية لإنهاء الاحتلال وتحرير فلسطين، وأقرت منذ البداية بدور المنظمة في الصراع بحفاظها على كيان الشعب الفلسطيني.
كما أن البنية الأيديولوجية الدينية التي شكلت أساس ميثاق حركة "حماس"، انحسرت حدتها تدريجياً، وهو الأمر الذي أكدته مفردات خطاب قيادات الحركة خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وكذلك أداء الحركة وممارساتها بعد دخول الألفية الجديدة.
إن ذلك الانحسار التدريجي للتوجه الأيديولوجي ينسجم مع التطور الذي لحق بدور ومهام الحركة من مجرد جناح مقاوم لجماعة الإخوان في فلسطين إلى كونها أصبحت تمثل الواجهة الفعلية لجماعة الإخوان والمسؤولة فعلياً عن وظائفها الأخرى الدعوية والاجتماعية والسياسية.
فبعد أن دعت منظمة التحرير إلى التخلي عن علمانيتها كشرط للانضمام إليها في ميثاقها وفي بداية ظهورها، تراجعت "حماس" ضمنياً عن ذلك عندما بدأت بالتركيز على البرنامج السياسي للمنظمة واستحقاقاته، ومطالبتها كذلك بالتزام المنظمة بالديموقراطية ودعوتها للقبول بالتعددية السياسية. وأصبحت الحركة ترهن انضمامها إلى المنظمة، بعد توقيعها على وثيقة الوفاق الوطني عام 2006، بتعديل برنامجها السياسي وضرورة إصلاحها وإجراء انتخابات لمجلسها الوطني. كما دعا برنامج الحركة الانتخابي عام 2006 إلى جعل الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع وليس مصدراً وحيداً للتشريع، وهو ما يتفق مع موقف حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية أيضاً. وخلا برنامج الحركة الانتخابي من المبالغة بالإشارات الدينية، فبعد أن ضم ميثاقها 45 آية، اكتفى برنامج الحركة الانتخابي بالاستشهاد بست آيات قرآنية فقط.
ورغم أن تباين المواقف السياسية بين حركتي "فتح" و "حماس" لا يعد اختلافاً فكرياً، فقد يتقارب عدد من المواقف السياسية لحركة "حماس" مع المواقف السياسية لحركات اليسار العلماني الفلسطيني، في مواجهة مواقف سياسية لحركة "فتح"، إلا أن المواقف السياسية لحركتي "فتح" و "حماس" باتت أكثر انسجاماً تدريجياً. ويعد التباين والاختلاف في الرؤى السمة الرئيسية التي تميز التعددية السياسية عموماً، فالاختلاف في المواقف بين الأحزاب والفصائل أمر طبيعي وضروري، إلا أن غياب المؤسسة الوطنية الفلسطينية الحاضنة والمنظمة لذلك التباين في ظل نظام سياسي سلطوي، يعد العقبة الرئيسية في تنظيم حدود العلاقة بين التيارات المختلفة، وأحد الأسباب المباشرة في وصول الخلاف السياسي بين الفصائل إلى صراع غير مضبوط أو منظم على السلطة.
وعلى الرغم من أن فكر "فتح" يقوم على أساس علماني بينما فكر "حماس" يقوم على أساس ديني، إلا أن كلا الفكرين محكوم بثقافة وحضارة أصلها واحد وهي العربية الإسلامية، وبانتماء وطني فلسطيني وحيد يصهر في مضمونه السياسي جميع الانتماءات الفكرية، ضمن اتفاق مشترك على سيادة القيم الديموقراطية كمحدد بنيوي لمفاصل السياسة الفلسطينية الداخلية. فالسياق الذي ميز الحالة الفلسطينية أنتج تقاطعات فكرية متجلية بين فكري "حماس" و "فتح" في مفاصل رئيسية عديدة، بحيث باتت مراكز الالتقاء الفكري بين الحركتين أكبر من مكامن الافتراق. ومن الصعب اعتبار أن الخلاف الفكري بين الحركتين سبباً رئيسياً للانقسام.
سنية الحسيني
* أستاذة في جامعة بير زيت - فلسطين