سُجلت باسمنا نحن العرب، إمبراطوريات كبيرة ومتوسطة وصغيرة، ومثل كل الإمبراطوريات التي شهدتها البشرية، تبددت إمبراطورياتنا وانتهى نفوذها، وكثيرا ما صارت مكوناتها نهبًا لدول وشعوب جاء دورها في تأسيس دول كبرى أو إمبراطوريات.
إلا أن جيلنا ورث عن كل ذلك زهوًا بالماضي أدّى إلى خسارتنا للحاضر، فقد نشأت في عالمنا العربي شعارات وطروحات قوامها جملة واحدة هي «استعادة الأمجاد السابقة»، وتحت هذه الجملة تأسست أحزاب وارتجلت تحالفات وخيضت حروب وتواترت انقلابات، ولعلنا في القرن الحادي والعشرين نحتاج إلى حاسوب ضخم لتحديد عدد الضحايا الذين سقطوا تحت هذه الجملة، ولا أتحدث عن الخسائر المادية والمعنوية، التي لحقت بنا جراء التنصل من الحاضر ومهامه لمصلحة التمسك بالماضي وذكرياته.
كان اعتناق هذه الجملة والارتجال المفرط في وضع السياسات المغلفة بها، قد أعاقا نمونا في كل مجالات الحياة، وخصوصا التعليمية والثقافية، ألسنا من أسسنا ثقافة الزهو بالماضي، وزرعنا في عقول الأجيال بذورا من الماضي حتى ظن جيلنا وقد تأكد من أن الأسلاف العظماء ملأوا البر حتى ضاق عنهم، واضطروا لملء البحر بالسفن؟
لا أحد ينكر أن في ماضينا أشياء حقيقية مبهرة حدثت، غير أن اعتناق هذه الأمجاد، كما لو أنها المؤهل الوحيد للعيش في عصر القوة بمقوماتها الحديثة ربما هو أخطر أنواع الموروثات القاتلة، ويبدو أننا العرب بدأنا بالتعافي من هذا المرض الفتاك من خلال تلمسنا لمكامن القوة الفعلية في حياتنا وحشدها والدخول بها إلى منتدى القوى الحديثة كعضو مشارك وفق إمكانياته وما كان ينطبق علينا في الماضي ينطبق على إخوتنا في إيران، فهذه الدولة اللصيقة بنا تاريخيًا وجغرافيًا وعقائديًا يقودها حنين إلى زمن كانت فيه قطبا كونيا يتقاسم النفوذ في العالم مع قطب آخر بما يشبه في عصرنا قطبية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في القرن العشرين.
وهنا لنناقش بهدوء وروية وضع إيران الحقيقي ثم وضعها المنشود في سياق الأحلام الإمبراطورية؛ فالوضع الحقيقي أنها دولة إقليمية عظمى بمنطق المساحة وعدد السكان والثروات والتاريخ والجغرافيا، وكان بوسعها أن تنمو إلى أعلى وأن تضاهي أفضل الدول في هذا العصر في العلاقات السلمية والتجارة وترشيد الإنفاق بمعزل عن الأحلام والأوهام التي بقدر ما اعتنقتها إمبراطوريات سبقت، إلا أنها كانت مقتل هذه الإمبراطوريات وسبب تخلف حياة شعوبها عن ركب التطور الإنساني الطبيعي.
من حق إيران أن تبني جيشا قويا يحمي حدودها، فلا أحد ينكر عليها أو على غيرها ذلك، إلا أن ما حصل من إعلان أولي لتصدير الثورة إلى الجوار، ثم تلاه حروب واحتلالات وتدخلات وإنفاق المليارات في سباق لمدى الصواريخ الهجومية واحتمالات القنبلة النووية جعلت الدولة الإقليمية العظمى أضعف كثيرا من تطلعات قادتها، بل إن شعبها الذي ذاق مرارة الحصار والمقاطعة هتف من أعماق قلبه للاتفاق الذي تم في لوزان ليس لأنه حفظ المنشآت النووية المفرغة من فاعليتها، بل لأن هناك أملا في رفع الحصار بحيث يحصل المواطن الإيراني على أبسط مقومات الحياة وأهم دعائم التنمية.
يظل يحدونا أمل بأن تقرأ إيران الواقع بصورة أكثر عملية، وأن تعتمد حسابات خالية من الأحلام والأوهام، وتنتج سياسة تقنع الجوار بفتح أبواب التعاون المتبادل على مصاريعها بعيدا عن الشكوك بوجود أجندات مضمرة، وأن تستبدل بدعمها السلاح لمن تتعامل معهم كميليشيات في خدمة النفوذ الإمبراطوري طويل الأمد، ليس مطلوبا أن تمطر اليمن بالمال مثلا، بقدر ما هو الأفضل للجميع، أن تطرق البيوت من أبوابها الصحيحة ليس في اليمن فقط، وإنما في كل مكان على وجه الأرض.
أخيرا.. الفرق بيننا وبين المجتمعات المتقدمة أكثر منا، أنهم يعيشون عصرهم والعصر القادم، أما هنا فكارثتنا أنه ما زال عندنا من يعيش الحاضر من أجل إحياء الماضي، وهذه مهمة عبثية مكلفة ومستحيلة.
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني