عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية ضد التمرد العسكري في اليمن، أثارت حيرة النخبة السياسية والثقافية العربية، حيرة ناتجة عن أسباب أيدلوجية وتحكمها معادلات بسيطة شبه رياضية، تكشف عن ضحالة التفكير الكلاسيكي النمطي الذي يسيطر على عدد لا بأس به من المثقفين في الحكم على المتغيرات والأشياء، فإسقاط الماضي وعُقد التاريخ على واقع سريع التغير أمر يتنافى مع حيوية العقل ومقتضيات العمل السياسي الذي تختلط فيه المباديء والمصالح والحسابات، وتنتج عنه مواقف وتحالفات ونظريات جديدة، ودروس الرياضيات لا علاقة لها بعلم السياسة إلّا عند لحظة إطلاق القذائف.
الحيرة النخبوية لم تكن وليدة عاصفة الحزم، بل سبقتها بقليل إثر إنهيار شعار العيش والكرامة والحرية الذي حملته ثورات "الربيع العربي" لصالح فوضى ضربت بلدان الربيع وهددت بقية البلدان العربية لو قدّر للولايات المتحدة الأمريكية إسقاط النظام السوري وحماية حكم رجال الدين السياسي في مصر وتونس، ولو قدّر لها أن تستمر في ممارسة دور الوصي على ربيع العرب ومصالح ومستقبل العرب.
التساؤل الأبرز الذي هيمن على نقاش الموقف من "عاصفة الحزم" وأثار حفيظة وتحفظ بعض النخب متعلق بطبيعة وقيادة المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي للعملية العسكرية، المملكة التي دعمت منظمات الإخوان المسلمون في مصر والكثير من البلدان العربية، وساندت وموّلت الحوثيين" الشيعة" في مراحل زمنية غابرة، ولا زالت تدعم منظمات دينية شبه إنفصالية في سوريا، إضافة لموقفها التاريخي من مسألة القومية والفكر القومي العربي واليسار العربي، وخشيتها على دعائم العرش المرتكزة على الدين الوهابي والملكية الأبدية للحكم والثروة والدولة وتصديرها لجملة من الأفكار الأخرى وتقف حائلاً أمام تطور ونهضة أي مجتمع مهما بلغت قوة إقتصاده، وهذا تساؤل جدّي حقيقي ومشروع بعد أكثر من مصيبة ألمت بالعالم العربي، تركته حتى هذه اللحظة على هامش المجتمعات الحديثة، فريسة سهلة لكل القوى الإستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الإمريكية.
التساؤل الثاني متعلق بموقف أمريكا والإتحاد الأوروبي من العملية العسكرية، واستعدادهما لتوفير الدعم اللوجستي والإستخباراتي لهذه العملية، فالطبيعي أن يقف المثقفون في الجانب المعاكس للموقف الغربي، لأن الغرب قوى إستعمار وهيمنة ونهب لثروات وخيرات الشعوب، وليسوا حماة لوحدة اليمن ولا غيرها، بل أصحاب فكرة تقسيم غير سريّة، أعلنت عنها واشنطن فيما عرف بمشروع "الشرق الأوسط الكبير" وترجمته عملياً في العراق قبل طرح هذا المشروع في العلن.
عشرات الأسئلة والتفاصيل يمكن طرحها قد تكون أكثر أهمية مما سبق، ولكن أمريكا والسعودية بنظري هما مصدر حيرة وتعثر الموقف من عملية عاصفة الحزم لدى أغلبية ليست بسيطة من المثقفين العرب، جعل عدد منهم يقف ضد العملية بغض النظر عن نتائج التمرد العسكري الحوثي، وآخرون يدعون إلى تبني "حلّ سلمي" وأعفوا أنفسهم من مسؤولية الإجابة عن كيفية صناعة الحل السلمي في بلد غريق بالجهل والسلاح والفقر والقبلية، رفضت فيها الجماعات المسلحة حلّا إنتقالياً في يناير 2011، وقامت بما قامت به، وموقف ثالث يؤيد العملية العسكرية ويدافع عنها حتى آخر قذيفة مدفع.
تشتت وحيرة النخبة العربية له ما يبرره، فالتاريخ العربي حافل بالتجارب الفاشلة، والدولة لا يؤتمن جانبها، لكنّ "النفخ في الزبادي" لا يعفي النخبة من المسؤولية إتجاه كل ما يجري، بعد أن أضاعت فرصة ماثلة للعمل من أجل الحرية والديمقراطية والعيش الكريم، مشروطة بالإستعداد والقدرة العاليتين على الإستفادة من الربيع العربي ونهضة الشعوب ضد الإستبداد ومن أجل ترسيخ قواعد جديدة للعمل السياسي المدني الذي يصون الحريات في إطار دولة القانون، تُركت هذه الفرصة لإستثمار منظمات الدين السياسي على مختلف درجات تطرفها، ولإستثمار أمريكي خطير يسعى حتى اللحظة إلى تحطيم عواصم التنوير العربية الثلاث، بغداد ودمشق والقاهرة، ويؤهل إسرائيل للتسيّد عقوداً طويلة على منطقة "الشرق الأوسط الجديد"، ويمكنها من إزالة حطام القضية الفلسطينية التي لن تكون قضية العرب الأولى ولا حتّى الأخيرة.
تلاشت الفرصة لإمكانية بروز موقف ثالث ديمقراطي إنتقالي يحافظ على أهداف ثورات الربيع العربي ويمنع تقسيم الدول العربية ويحافظ على السلم الأهلي والإجتماعي ويتمكن من الحكم لإنفاذ برنامج التغيير المنشود الذي حمل شعاره صنّاع الربيع العربي، بفعل تسارع الأحداث وجهوزية بعض القوى الدولية والإقليمية – إيران وتركيا وأمريكا، وقصور النخب السياسية التي تخلفت أحزابها ومنظماتها المدنية الأخرى عن اللحاق بمعركة الجماهير لإسقاط حكم الإستبداد، هذا التخلف الذي دفع بالشعوب مرة أخرى لإختيار حكم العسكر عوضاً عن حالة الفوضى المميتة التي كانت تنتظر العرب في كل مكان لو قدّر لأمريكا وحلفائها من منظمات الدين السياسي وغيرها المزيد من الإستثمار في ربيع العرب.
بات واضحاً أن الصراع في المجتمات العربية وعلي ثرواتها أوسع بكثير من وضعه في قوالب وثنائيات طبقية أو مذهبية أو أيديولوجية، تجاوز أيضاً حالة الصراع الطبيعي بين نظم الإستبداد وقوى ثورية ساعية لتحقيق حلم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، رغم التوظيف الكبير لبعض هذه الثنائيات، فقد تحوّل بدون أدني شك إلى معركة ضرورية من أجل فرض الإستقرار ووقف حالة الإستنزاف والتقسيم التي تهدد الجميع، دولاً ومجتمعات وممالك على عواهنها، أيّ كانت مواقفنا وملاحظاتنا على هذه النظم السياسية، فالخطر جماعي وكبير ويدفع لتحطيم قواعد التفكير النمطي الذي سيطر على عقول النخب السياسية والثقافية العربية بإتجاه فضاء أوسع يبحث عن مصالح وقواسم مشتركة لكل العرب، وتُهمل خلالها بعض الحسابات والعقد المتعلقة بالتاريخ والأيديولوجيا لصالح ما هو أعظم وأهم.
الحاجة ماسّة لإعادة صياغة المواقف وترتيب الأولويات في إطار مجموعة من المراجعات والتنازلات الفكرية والسياسية لصالح الإستقرار الإقليمي أولاً وقبل شيء، فلا يمكن تحقيق التنمية العربية والحرية والديمقراطية ولا حتّى بناء دولة إشتراكية، في ظل حالة الفوضى الدموية التي تشهدها عدة بلدان عربية، وتحت تهديد التقسيم التشظي الذي يمكن لأي جماعة منظمة ومسلحة أن تفعله.
الدولة والمواطن أمام تحدي الإستقرار وإستعادة السلم الأهلي والإجتماعي، هذه المعركة لا تستطيع الدولة بمفردها القيام بها، وإن فعلت فهي تؤسس لمرحلة جديدة من الإستبداد، وهنا تبرز مسؤولية النخب السياسية التي فشلت في حصاد الربيع، لتعيد تصويب أوضاعها وتفعيل دورها في حماية الدولة والمجتمعات من أخطار الفوضى والموت والتقسيم حالياً وخطر الإستبداد المنتظر إذا ما تركت الدولة تواجه مصيرها لوحدها.
العمل السياسي لا يعرف الخصومة الدائمة ولا التحالفات المطلقة، وإذا كان النظام العربي الجديد قد أنتج قوة عسكرية عربية للدفاع عن المصالح القومية وهي خطوة جيدة بحاجة للجدية والتطوير، فقد بات لزاماً على النخب العربية وأحزابها ومثقفيها وإعلامييها تشكيل جبهة موحدة مرنة تحرس الدولة من خطر الإنهيار، وتتفاعل مع المجتمعات وتؤثر فيها وفي وعيها وتوجهاتها، وتساعدها على العبور إلى المستقبل بثقة وقدرة على الإختيار والتنقل بين الخيارات، نخبة تشارك وتؤسس لحياة حزبية سياسية عوضاً عن عصابات الإجرام التي تقضم الدول وتمسخها إلى إمارات تزدهر فيها تجارة الدماء والرق ونكاح الجهاد، فالجيوش وحدها قد تحسم معركة أو حرب، لكنها لن تخوض كل المعارك.
بقلم/ محمد أبو مهادي