المنتظر والمأمول من تشكيل النقابة العامة للمحاسبين الفلسطينيين

بقلم: نصار يقين

من المعروف بأن العمل النقابي في فلسطين بدأ ثوريا ضد الانتداب البريطاني، ومقاتلاً ضد العصابات الصهيونية وما حملته من خطط لتهويد فلسطين والاستيلاء عليها، لقد تنادى العمال العرب الفلسطينيون لتأسيس نقابة خاصة بهم لإثبات الذات، بل والتفوق على الخصم في محاولاته الأنانية الساعية للتعبير عن ذاته غير المشروعة من جهة، ومن جهة  أخرى ليكون ما تأسسه الحركة الصهيونية من جمعيات وتعاونيات ونقابات، لتكون من أدوات الهجمة على فلسطين وشعبها، وتأسيسا على القانون العثماني الصادر في سنة 1909 والذي أجاز لثمانية أشخاص أن يؤلفوا بينهم جمعية لرعاية مصالحهم، ولمن ينتسب إليهم لاحقا، فقد بدأ التنظيم النقابي الفعلي في سنة 1920 وتبلور فعليا سنة 1925عندما تشكلت جمعية العمال العرب الفلسطينية، كعمل ندي ومقاوم لما أفرزه المشروع الصهيوني من تنظيم نقابي تحت اسم الاتحاد العام للعمال اليهود، كأداة من أدوات ترسيخ ركائز المشروع الصهيوني البغيض في فلسطين، لقد بدأ ذاك الاتحاد المسموم عمله بسياسات عنصرية إزاء العمال الفلسطينيين، مما حدا بعمال فلسطين وبمن يقف إلى جانبهم من مفكريين ثوريين واحرار إلى التقدم في مشروعهم النقابي كجبهة عريضة ضد المشروع الصهيوني برمته،

 

دور  المحاسبة في مواكبة التقدم الاقتصادي الفلسطيني المضطرد

في الثلاثينات وما تلاها من القرن العشرين

من أعظم شواهد النبوغ الفلسطيني، وحرص أهل فلسطين على اقتصادهم خاصة واقتصاد أمة العرب عامة، ما سبقت إليه مدينة القدس في إصدارها مجلة الاقتصاديات العربية، حيث كان العدد الأول منها في الأول من كانون الثاني سنة 1935، فبعد مقدمة هذا العدد، كانت دراسة عجيبة في ذكائها المستشرف للمستقبل، بعد عرضها للواقع الدقيق آنذاك، وكانت بعنوان  "مستقبل زراعة البرتقال في فلسطين" ، وجدنا في الدراسة دقة مذهلة في احتساب تكاليف استصلاح الأرض وزراعاتها بالبرتقال كمنج استراتيجي فلسطيني آنذاك، مع جداول إحصائية بكمية صادرات فلسطين من هذا المنتج، تظهر بأن المصدر من إنتاج فلسطين كان ما يقارب مليون وربع مليون صندوق (35كغم زنة الصندوق) في سنة 1922، ولقد واصلت الكمية المصدرة زيادتها حتى وصلت في سنة 1934 إلى ما يقارب خمسة ملايين ونصف مليون صندوق، وهذا الرقم كان يقارب إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية كاملا في ذاك الزمن، لقد حسب الباحث (حسني المقدادي) بدقة تكاليف تهيئة الأرض للزراعة، وتكاليف القطف والتعبئة والنقل إلى المراكب، ثم تكاليف الشحن إلى الموانيء البريطانية ( أكبر المستوردين) وضريبة الحكومة البريطانية التي تتضاعف بداية من أول أيار حتى نهاية كانون الأول من كل سنة، وأضاف إلى ذلك احتساب الفائدة على رأس المال حتى السنة السادسة من تأسيس البيارة، وفوق هذا وذاك فقد حسب تكلفة رش الأشجار بالمبيدات الحشرية في السنوات التي تهاجم حشرة النمشة هذا المحصول، ليصل إلى الحد الأدنى لسعر البيع على الشجر وسعره في الموانيء الأوروبية من أجل أن يكون المزارع الفلسطيني رابحا في النهاية، ولقد وجد هذا الباحث بأن المزارع اليهودي سوف يضطر للبيع بسعر يزيد عن ثلاثين بالمائة من سعر البيع المربح للمزارع الفلسطيني، وعليه فإن المسافة بين ربحية المزارع الفلسطيني والصهيوني ستبقى كبيرة جدا، بسبب اضطرار اليهودي لاستئجار الأرض أو شرائها، وفي كل الأحوال فإن تكاليف اليد العاملة لن تتساوى قطعيا في البيارة الفلسطينية الأصيلة والبيارة اليهودية الدخيلة، كانت هذه الدراسة المحاسبية المشرفة لمهنة المحاسبة في فلسطين قبل أكثر من ثمانين سنة، خُتمت بست توصيات، منها تأسيس نقابة لمنتجي البرتقال وحدهم، وقد وجدنا في أعداد لاحقة لنفس المجلة، رفض أصحاب البيارات اليهود الاشتراك في نقابة واحدة مع المزارعين الفلسطينيين، ما يكشف نواياهم الكريهة العنصرية بحق فلسطين وشعبها قبل إعلان الكيان الصهيوني بفترة طويلة. وفي العدد الثاني من المجلة نصف الشهرية، وجدنا مقالا بعنوان " ضريبة الدخل عند الأمم" للباحث سعدي بسيسو، الحاصل على دبلوم الدراسات العليا في العلوم المالية من جامعة باريس.  

تاريخ المحاسبة في فلسطين مشرف، فلم لا يكون الحاضر أكثر تشريفا،وأعظم ألقا !؟

ليس من المستبعد أن يكون أول تسجيل واول ممارسة لمكتب خدمات محاسبية في الوطن العربي، كان في فلسطين، ففي زمن مبكر جدا من القرن الماضي أسس المرحوم سابا مكتبه للخدمات المحاسبية في مدينة حيفا، وبعد النكبة تم نقل المكتب إلى بيروت، ومن هناك انطلقت شركة سابا لمختلف بقاع الوطن العربي وحازت على هذا السبق والشهرة العالمية، وقبل أكثر من خمسين سنة لمع نجم المحاسب العبقري اليافوي طلال أبو غزالة، صاحب المدرسة العالمية العظيمة في المراجعة والتدقيق، لقد سارت هذه المجموعة بخطط وخطى دقيقة في التوسع والنمو، حتى أصبحت كبرى شركات التدقيق في الوطن العربي، ومن الشركات العالمية التي يشار إليها بالبنان، لقد كانت  مسيرة هذا المجموعة الدولية عجيبة في سرعة التطور والنمو والشهرة، ما يعطي كل محاسب فلسطيني خاصة وعربي عامة الثقة في نفسه، إن كان ذلك في شخصيته المتميزة أو ودقة أدائه، ولقد قدم المحاسبون الفلسطينيون من خلال هذه الشركة العملاقة، وغيرهها من مؤسسات وشركات التدقيق العربية مساهمة لافتة في رفد الاقتصاديات العربية، بطواقم مكتملة في التدقيق والمراجعة، ومثل ذلك في المحاسبة ومختلف الدراسات والأبحاث المالية،

وفي هذا المقال لا يمكن أن نفي هذه المجموعة ومؤسسها السيد طلال أبو غزالة حقهما في الوصف الكامل، بل إن هذا بحاجة إلى بحث منفرد وخاص بهذه المجموعة، كصرح عربي وعالمي حظيت بثقة المهنيين والساسة عربا وأجانب، أفرادا ومؤسسات بما فيها هيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الدولي للمحاسبين، وسائر الأطر المهنية العالمية في الشرق والغرب، تلك المهتمة بإصدار معايير وادلة المحاسبة والمراجعة على سطح هذا الكوكب.

هل الحاجة ماسة لتاسيس نقابة عامة للمحاسبين الفلسطينيين ؟

بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية على أرض الوطن، فقد لبى المحاسبون كافة مطالب واحتياجات هذه السلطة، من حديث التخرج إلى الخبير العالمي مرورا بجميع المستويات الوظيفية المناسبة لحجم الأعمال الخاصة والعامة ومؤسسات العمل الأهلي، وكان لعودة الكثير من المحاسبين المغتربين، ذوي الخبرة العالمية الناضجة أعظم الأثر في رفد الوطن بكافة الخبرات الضرورية للأداء والشهادة على صحة الأداء، وترافق ذلك مع دور مهم للجامعات الفلسطينية في تطوير دوائر وأقسام المحاسبة في كليات التجارة وإدارة الأعمال لرفد اقتصاد فلسطين بشكل متواصل، بكافة الشرائح العمرية من المحاسبين، الذين استلهموا بشكل لافت كل ما قدمته لهم تكنولوجيا المعلومات. من جهة أخرى أبدع المحاسبون الفلسطينيون في التعاون مع مهندسي الكمبيوتر والمبرمجين في إنتاج برامج محاسبية محوسبة، أقل ما يقال فيها بأنها مفخرة لفلسطين، سهلت عمل المحاسبين ورفعتهم إلى مستويات عالمية في الأداء المحاسبي العملي باستخدام الكمبيوتر، مع توظيف كامل لمقدرات هذه البرامج، ومطالبة القائمين عليها بالتحديث المتواصل لخدمة كافة أغراض التقارير المطلوبة، وبعملات مختلفة، لقد أدى المحاسب الفلسطيني دوره المطلوب ببراعة لبت متطلبات العقود الموقعة مع المانحين لمختلف القطاعات، ولا نبالغ أو نغال إذا قلنا بأن المحاسب الفلسطيني وفي وقت قصير أصبح من أفضل المحاسبين في العالم، وقد يكون السبب في ذلك بأن تكلفة إعداد المحاسب ليست كتكلفة إعداد المهندس والطبيب والصيدلي وغير ذلك من المهن، التي تستوجب سفر واغتراب الدارسين من اجل الوصول للعالم والبرفسور والجامعات الحديثة بما فيها من تقنيات وأجهزة ليست متوفرة أبدا في المجتمعات النامية. وفوق ذلك فإن مهنة المحاسبة تفتح المجال فسيحا لكل من أراد أن يتطور في هذا الحقل الواعد، وعليه فإن مجال المحاسبة، هو البوابة الأوسع والإمكانية الأفضل لإحراز تفوق وسبق فلسطيني عالمي، وفي غير ذلك من مجالات العلوم والمعارف،فإن التفوق أصعب بكثير، كون ذلك يستدعي تمويل بعثات للخارج، لا يمكن أن تكون متاحة للجميع، في النهاية فقد تطور المحاسب الفلسطيني عددا واستعدادا، كما وكيفا إلى حد تاسيس نقابات مهنية خاصة بهم في جميع محافظات الضفة الفلسطينية الإحدى عشر، بدأت النقابة الأولى في محافظة الخليل وانتقلت إلى جميع المحافظات الأخرى بسرعة اللهب، وبقي على هذه النقابات أن تقيم رابطا رسميا بينها، ومظلة جامعة لجميع المحاسبين، أسوة بالمهن الأخرى، كالأطباء والمهندسين والمحامين وأطباء الأسنان وغير ذلك. إن المحاسب الفلسطيني ليرجو من جميع المسؤولين في دولة فلسطين، ومن سائر المفكرين والاقتصاديين وأصحاب العمل المساهمة في إنشاء هذا الرابط بين المحاسبين، لقد سعينا أن يكون هذا الرابط هو النقابة العامة للمحاسبين الفلسطينيين، ونرجو لهذه النقابة العامة أن ترى النور سريعا،وعلى كبار المسؤولين والقانونيين والنقابيين الآخرين تقع مسؤولية إنجاز هذه الصرح الوطني النقابي، على درب إنجاز كافة مؤسسات الدولة الوطنية المستقلة اقتصاديا وسياسيا.

الطاقات الكامنة في المحاسبين الفلسطينيين لخدمة قضيتهم في

 التاريخ الحرج والزمن الصعب.

 لا يخفى على أحد منا أو من غيرنا، بأن الاحتلال البغيض يشن على الاقتصاد الفلسطيني حربا شعواء، إذا لا يعقل أن يقف محتل مع اقتصاد شعب تحت احتلاله ويتوقف عن محاربته بكل الوسائل، وخاصة ما يبقي اقتصاد المحتل تابعا وذيلا لاقتصاد المعتدي، وإلا لما كان محتلا أو معتديا، ولذا فإن المحتل أو المستعمر الذي يدرك تماما بأن الاستقلال الاقتصادي مقدمة قوية للاستقلال السياسي فإنه سوف يضع كل العراقيل أمام اقتصاد المعتدى عليه ، وعليه فإن المنطق يقتضي بأن الرافض لاستقلال فلسطين السياسي لابد أن يكون رافضا وممانعا لاستقلالها الاقتصادي.ومن هنا تبدأ الحرب الاقتصادية بين الطرفين، وفي مسألة الاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني من شبكة معقدة من الأزمات، يتوجب على كل فلسطيني أن يكون نصيرا لشعبه ومقاوما لعدوه، ولسائر خطط هذا العدو، التي تقمع طموحه الوطني، عبر شل حركته وإعاقة كل خطط البناء والتنمية لديه، ولما وصلت الحرب الاقتصادية التي يشنها علينا الاحنلال إلى ذروتها باحتجاز أموال السلطة الفلسطينية كعقاب لها على لا شيء فعلته ، فقد وجب الرد بكل ما أمكن من وسائل وأدوات متاحة لنا على هذا الجور والظلم الواضح للصغير قبل الكبير، لقد نفذ الشعب الفلسطيني عملا قويا ضد بعض الشركات الإسرائلية، وهو قادر على فعل المزيد، ولقد أصبح واضحا جليا بأن المدافع عن اقتصاد فلسطين كالمدافع عن ثغورها والحامي لأرضها، ولما كانت المحاسبه هي العصب الحساس في أي اقتصاد، فقد أصبح لمهنة المحاسبة في فلسطين دورا جادا يجب أن تقوم به في هذا الزمن بالذات، في مجالات خفض التكاليف إلى أدنى حد ممكن، عن طريق تفادي جميع أنواع الهدر والمهدور في الموارد الوطنية والممتلكات العامة، والمساهمة في وضع أمثل الخطط لأولويات الصرف والإنفاق والاستثمار،وكذلك المساهمة في وضع أفضل خطط المزج بين الموارد بحيث يؤدي ذلك إلى تعظيم قيمة المنتجات والخدمات من حيث الكم والجودة. إضافة إلى ضرورة قيام المحاسبين بتعزيز النزاهة والشفافية في جميع مواقع عملهم، فلا يصادقون على أين من حالات الغش والتدليس في كل ما يقومون بفحصه وإصدار التقارير بشأنه.

إضافة إلى ذلك فإن المحاسبين، قانونيين ومساعدين لهم، فهم مطالبون بفتح جميع مجالات الاشتباك القانوني والقضائي مع دولة الاحتلال، فيما تقوم به من إرهاب منظم في اعتدائها على أموال وممتلكات الشعب الفسطيني ، كجهد رديف ومكمل، لما تقوم به الجهات السياسية والبلوماسية والثقافية وكل القوى الكفاحية الأخرى. لقد وجدت القيادة الفلسطينية ضرورة التوجه للمحكمة الجنائية الدولية، وهذا يتطلب من المحاسبين التعمق في دراسة المحاسبة الجنائية والمقاضاة على أساسها، ومثل ذلك التحكيم المالي، الذي يجب أن يتم العناية به كثيرا، استعدادا لما سيصاحب الدعاوي التي سوف ترفعها دولة فلسطين على دولة الاحتلال، لزجرها عن كل المخالفات التي يعاقب عليها القانون الدولي.

 وداخليا فإن المحاسب المخلص المنتمي لوطنه وشعبه في هذا الزمن الفلسطيني الصعب، يمكنه أن يكون الناصح الأمين لتفادي العسر في الجامعات والمستشفيات الخاصة، وروابط واتحادات الكتاب و الأدباء والصحفيين، ومختلف معاهد ومراكز الأبحاث والدراسات، والجمعيات التعاونية، ودور الرعاية للمسنيين وكافة المؤسسات التي تدعم كافة المحتاجين والموجوعين، من أسر الشهداء والجرحى والمعتقلين.   

أخيرا، نأمل أن يسجل التاريخ لاحقا، بأن مولد النقابة العامة للمحاسبين الفلسطينيين، جاء من رحم فلسطين وهي في ذروة حربها الاقتصادية مع اقتصاد الكيان المحتل. 

    

نصار يقين

 رئيس النقابة في محافظة القدس