يستضيف الكيان الصهيوني مؤتمراً إقليمياً لمناقشة تداعيات انتشار الأسلحة النووية في منطقة الشرق الأوسط، ومخاطر امتلاك دولٍ "مارقةٍ" لها، وللبحث في أفضل السبل وأكثرها نجاعةً لمنع ومراقبة أي تجارب نووية جديدة تجرى في المنطقة، وقد دُعيت إلى المؤتمر دولٌ عربية وأخرى غربية، بالإضافة إلى خبراء ومختصين من الولايات المتحدة الأمريكية، ولفيفٍ من السياسيين والباحثين والإعلاميين الكبار، الذين يتابعون تفاصيل الملف النووي في منطقة الشرق الأوسط، والذين يؤمنون بضرورة بقائها منطقةً خالية من أسلحة الدمار الشامل فيما عدا دولة الكيان الصهيوني، التي تفرض برأيهم طبيعة ظروفها، والتحديات التي تواجهها، والأخلاقيات الدولية المسؤولة التي تتمتع بها الدول الكبرى، ضرورة استثنائها من الحظر.
تريد الحكومة الصهيونية من هذا المؤتمر أن يؤسس لرابطة إقليمية تعنى بالشأن النووي، وتؤمن بوجوب عدم اقحام المنطقة في أتون سباق نووي محمومٍ، وتضع مع غيرها من دول المنطقة خططاً وبرامج مشتركة، وتنظم آليات المتابعة والمراقبة، وتجري مناورات مشتركة لمواجهة أخطار التسرب النووي، وتعمل على كشف وفضح التجارب النووية التي تجرى في المنطقة، وتعرض أمنها وسلامتها للخطر، وذلك من خلال تبادل الخبرات، والاستفادة من الأجهزة الدقيقة والحساسة، التي من شأنها فحص وحساب درجة الإشعاع النووي في الهواء والماء والفضاء، والمساعدة في جمع عيناتٍ من التربة والمياه من مناطق الاشتباه النووي، لفحصها مخبرياً، وتسليم نتائجها إلى الوكالة الدولية للطاقة النووية، بالإضافة إلى توصياتها الخاصة بكيفية التعامل مع الدول الطامحة لامتلاك قدراتٍ نووية.
تدعي الحكومات الصهيونية بكل بجاحةٍ وسفور أنها دولة عاقلة، وأنها لا تتهم بالجنون أو التهور، وأنها مسؤولة وحكيمة، ولا تسمح لمتطرفين بالسيطرة على السلاح، ولا بالتحكم في قراره، وأنه يخضع لسلطة رئيس الأركان ورئيس الحكومة، وأنها لن تستخدم السلاح النووي في إحداث كارثة نووية كبيرة في العالم، ولن تلجأ إليه إلا مضطرة، وقد لا تستخدمه إلا تلويحاً، فهي تعرف مضاره ونتائجه، وعواقبه وما يترتب على استخدامه من آثار بعيدة المدى، لذا فهي تتسلح به فقط لحماية نفسها، ومنع الآخرين من الاعتداء عليها، وهو بالنسبة لها سلاح ردعٍ وترهيب، تلوح به ضد خصومها لئلا يحاولوا المس بها أو إيذاءها.
بوقاحةٍ وبجاحةٍ وسماجةٍ وسفالةٍ وقلة ذوق، واستهتارٍ واستخفافٍ بالقوانين الدولية والأعراف الإنسانية، تدعو الحكومة الإسرائيلية إلى جعل منطقة الشرق الوسط فيما عداها منطقةً خاليةً من السلاح النووي، ومن جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل، البيولوجية والكيميائية والتقليدية، وتطالب المجتمع الدولي والدول العظمى بضرورة منع دول المنطقة من امتلاك تقنية إنتاج القنابل النووية، وتطالبها بضرورة إلزامها بعدم السعي لامتلاكها، إنتاجاً أو شراءً، والزامها بوجوب إخضاع كافة مؤسساتها العسكرية والمدنية لهيئات المراقبة الدولية المختلفة، ومنها وكالة الطاقة النووية، التي تقوم بعمليات تفتيشٍ دورية، نظامية وفجائية، للعديد من دول المنطقة، ولكنها تستثني الكيان الصهيوني بعلم وموافقة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، ولا تقوى على إلزامه، ولا تستطيع دخول مؤسساته العسكرية، ولا مفاعلاته النووية، ولا تتلقى من حكومته أي تقارير دورية أو فصلية عن أنشطتها النووية.
يعتقد الكيان الصهيوني أنه يحق له وحده في منطقة الشرق الأوسط أن يمتلك السلاح النووي، وأن يحصن نفسه بمختلف أنواع الأسلحة التقليدية والفتاكة، الهجومية والدفاعية، القادرة على الصد والدفاع، والترهيب والترويع، والاستباق والمفاجئة، والإحباط والصدم، لمنع أي دولة من دول المنطقة من التغول عليه، أو محاولة تهديد وجوده، أو المساس بأمنه، إذ أنهم وكيانهم يحاطون بدولٍ معادية، وشعوبٍ لهم كاره، ولوجودهم رافضة، ويسعون لاستئصالهم وإنهاء كيانهم، وشطب دولتهم والحلول مكانهم، ويستشهدون بالتاريخ الحديث أن الدول العربية المحيطة بهم تبادر لحربهم، وتعد لقتالهم، وتدعم أي مقاومة ضدهم، وتساعد القوى التي تهدد وجودهم وتقاتل جيشهم، وتعتدي على مواطنيهم ومستوطنيهم.
الكيان الصهيوني لا يفتأ يخاطب المجتمع الدولي كله بالالتزام تجاهه بسياستين ضابطتين دائمتين لا تتغيران ولا تتبدلان، تلتزم بهما الحكومات، وتورثها لمن يستلم الحكم من بعدها كثوابتٍ والتزامات، الأولى سلبية، وتعني التزام المجتمع الدولي كله بمنع امتلاك أي دولةٍ تصنف معاديةً للكيان، أو من المحتمل أن تكون يوماً معادية له، في الإطار القريب أو البعيد جغرافياً، أو أن سلطتها المركزية ضعيفة، مما قد يسرب أسلحتها وأسرارها النووية إلى منظماتٍ إرهابيةٍ ومجموعاتٍ أصوليةٍ متطرفة، تشكل خطراً كبيراً على الكيان الصهيوني والمجتمع الدولي كله، وتجعله عرضةً لهجماتٍ غير منضبطة من قوى المقاومة على اختلافها.
أما الالتزام الثاني الذي هو إيجابي الشكل والجوهر، فينص على تمكين الكيان الصهيوني من امتلاك مختلف أنواع التقنية النووية العالية، وتزويده بجميع المعلومات والبيانات والمعادلات العلمية الجديدة التي من شأنها تطوير القدرات النووية، وجعل أسلحته دقيقة ومباشرة، وذات أضرارٍ جانبيةٍ أقل، فضلاً عن تزويد جيش الكيان بصواريخ قادرة على حمل رؤوسٍ نوويةٍ استراتيجيةٍ، ومدافع نووية، بالإضافة إلى غواصاتٍ حديثة قادرة على حمل صواريخ نووية، وتستطيع الإبحار عميقاً وبعيداً في بحار ومحيطات المنطقة، بما يجعلها قادرة على توجيه ضربةٍ أولى استباقية وقائية، أو ثانية انتقامية وثأريةٍ ضد من يعتدي عليها في المحيط القريب أو البعيد.
للأسف فإن المجتمع الدولي المصاب بالعمى، والذي يتعامل بمزاجيةٍ وازدواجيةٍ، يصدق الرواية الإسرائيلية ويؤمن بها منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد أرسى قواعدها قادةٌ كبار، وعلى رأسهم رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، ومعهم قادة الدول الكبرى في العالم، الذين يعتقدون بمظلومية الكيان وأحقيته في أن يكون قوياً ومالكاً لأسلحةٍ رادعةٍ وفتاكة، ولهذا فإنهم لا ينفكون يزودونه بما يريد، وينصتون له عندما يشكو، ويلبونه إذا طلب، ويؤمنونه عندما يبدي خوفه، ويسرعون إليه لتطمينه والتخفيف من روعه، فيزودونه بالمزيد، ويعطونه الكثير، في الوقت الذي يشددون فيه على الآخرين ويقسون عليهم عقاباً وحصاراً، ويمنعونهم من حقٍ هو لهم مشروعٌ ومكفول.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي