مشروع نهر الكونغو
تعود جذور فكرة ربط نهر النيل بنهر الكونغو بغرض زيادة مياه نهر النيل إلى بداية القرن الماضى الى المهندس البريطانى ويليام غارستين، الذى أعد تقريراً مفصلاً عام 1904 عن نهر النيل ما زال حتى يومنا هذا أحد المراجع الأساسية لحوض النيل.
تضمّن التقرير عدّة مقترحات لزيادة مياه النيل شملت تجفيف مستنقعات جنوب السودان وبناء عدّة قنوات، منها قناة جونجلي، لنقل مياه المستنقعات إلى النيل الأبيض، ودراسة إمكانية ربط النيل الأبيض بنهر الكونغو .
ونهر الكونغو هو ثاني أكبر أنهار العالم، من حيث حجم المياه التي يحملها، بعد نهر الأمزون في امريكا الجنوبية، حيث يحمل سنوياً حوالي 1450 مليار مترا مكعبا من المياه، تعادل حوالى 17 مرة الكمية التي يحملها نهر النيل سنوياً والمقاسة عند أسوان بحوالى 84 مليار مترا مكعبا، حيث يتواصل انسياب النهر بانتظام طول العام بسبب موسمية الأمطار على موقعه شمال وجنوب خط الاستواء.
وهو النهر التاسع في العالم من حيث الطول، والأول من حيث العمق بمتوسط 220 مترا، وتتعدّى مساحته 4 مليون كيلومترا مربعا، مقارنةً بنهر النيل حوالى3 مليون كيلومترا مربعا،
ويتميز عن غيره من أنهار العالم بعدم وجود "دلتا"، حيث تنساب المياه محملة بالطمي في خندق عميق من مرتفعاتُ أواسط افريقيا الى مسافة 30 كيلومترا من المياه العذبة داخل المحيط الأطلسي، وبقوة اندفاع هائلة تبلغ حوالى 41700 طن من المياه في الثانية الواحدة، مما يوضح ضخامة استغلاله فى انتاج الكهرباء، حيث تقدّر بأكثر من 13% من حجمها فى العالم، والأكبر في افريقيا كلها بصورة كفيلةٌ بمقابلة كل احتياجاتها افريقيا.
وتتشارك نهر الكونغو تسع دول هي: انجولا، وبوروندي، والكاميرون، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية الكونغو، ورواندا، وتنزانيا وزامبيا، أربع منها دولٌ نيليةٌ أيضاً ، تنزانيا وبوروندي ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، يتداخل فيها نهرا النيل والكونغو.
ولا توجد نزاعات مائية بين دول حوض نهر الكونغو، بسبب اعتماد الزراعات على الأمطار الغزيرة وليس على النهر، أيضا استخدامات مياه النهر لتوليد الطاقة غير استهلاكية حتى الان،
لذلك، فسيبقى المستوى الضخم لمياه الحوض يضيع فى المحيط دون استغلال.
لكل ما سبق، ظهرت فكرة زيادة منسوب النيل بربطه بنهر الكونغو لمقابلة الاحتياجات المتنامية لدول حوض النيل من ناحية، خاصة مصر الأكبر فى عدد السكان، وأيضاً حل النزاعات المائية بينها قبل أن تؤدى الى حروب عسكرية، إلا أن ذلك يتطلب موافقة جميع دول حوض نهر الكونغو التسعة على دراسة فكرة المشروع، على خلاف ما يروجه البعض حول عدم خضوع نهر الكونغو للقوانين الدولية المنظمة لمياه الأنهار، واقتصار الأمر على موافقة جمهورية الكنغو الديمقراطية وحدها.
والسؤال، ما مصلحة دول حوض نهر الكونغو من تنفيذ مشروع الربط بنهر النيل ؟
من الرومانسية السياسية، إن جاز التعبير، مطالبة تلك الدول بالموافقة على المشروع من منطلق الإخوة الإفريقية والدوافع الإنسانية، فالسياسة هى لعبة المصالح فى بعض آلياتها.
الأهم، فعلى فرض الوصول الى إتفاق مع دول حوض الكونغو الخمسة غير المشاركة فى حوض النيل، انجولا والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو وزامبيا، على أساس نظافة تاريخها المشترك مع مصر والسودان من المشاكل، فكيف يمكن اقناع الدول الأربع الأخرى المشاركة فى حوض النيل وحوض الكونغو معاً، تنزانيا وبوروندي ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، فى ظل التارسخ السىء مائياً مع مصر والسودان ؟
فمثلاً، كيف يمكن موافقة دولة مثل تنزانيا فوجئت فى 2004 بإحتجاج مصر والسودان على مشروعها "شين يانجا" من بحيرة فكتوريا لتوفير مياه الشرب، وليس الرى، لبعض قراها التي ضربها الجفاف في الإقليم الشمالي الغربي، دلا من مياه الأبار التى تلجأ إليها تنزانيا وغيرها من دول حوض النيل !! وهو المشروع الذي يستهلك سنوياً أقل من نصف مليار مترا مكعبا، في الوقت الذي يتبخر فيه حوالى 17 مليار مترا مكعبا من مياه النيل من سدود مصر والسودان؟
يومها أعلنت مصر أن سياسة الحوار الدبلوماسي لا تعني أن القاهرة لا تفكر في أية خيارات أخرى عند الضرورة
أيضاً إتقاقيات تقاسم مياه النيل التاريخية التى ترفضها دول الحوض، بصرف النظر عن موقف القانون الدولى، الذى لن يجبر أى دولة، بالتأكيد، على عقد معاهدة أو إتفاقية بطريقة قهرية.
مع ملاحظة أن بقية دول نهر الكونغو الخمسة هى الأقرب للدول الأخرى الأربع لغة ودينا وطباعا ونسبا وصهراً ايضا بقبائلها المتداخلة فى كل دولة، بمعنى أنها تعلمت من راس الذئب الطائر، أعنى من مراقبتها للطريقة التى انتهجتها مصر والسودان فى تعاملهما مع دول حوض النيل عبر التاريخ.
أيضا، الإضطرابات وحروب الثروة والسلطة فى دول الحوضين، النيل والكونغو، بين بعضها البعض،
فثاني اكبر بؤر التوتر من حيث حجم الضحايا، استنادا الى فيرجال هاوكينز فى كتابه الصادر سنة 2008 "شيح الصراعات"، كانت السودان بعدها تاتي انغولا ثم راواندا، بينما أولها تأتى الكونغو الديمقراطية !
وسنكتفى هنا فقط بحالتى جنوب السودان والكونغو الديمقراطية، لكونهما أهم الدول فى مشروع الربط بين النهرين، مع ملاحظة غير ذلك من الحروب العرقية أو التدخلات لتهريب مصادر الثروة، خاصة بين الكونغو الديمقراطية الغنية بمواردها، وواوغندا وراواند الفقيرتين
موقف دولة جنوب السودان
أصبحت جنوب السودان أحد أهم دول حوض النيل، حيث تضم أهم تجمع لمياه النيل، إذ يسقط عليها540 مليار مترا مكعبا من المياه سنويا, كما تسيطر علي كامل الإيراد المائي القادم من الهضبة الاستوائية والمقدر بـ29 مليار مترا مكعبا سنويا.
هنا، علينا أن نتذكر مشروع قناة جونجلي وأثره السلبى من تجفيف 1.5 مليون فدان من المستنقعات الصالحة للزراعة، راجع مقدمة البحث، وهو المشروع الذى تعطل بعد تفجر التمرد في الجنوبى بقيادة الراحل جون جارانج ضد نظام الرئيس السودانى السابق جعفر نميري.
ثم التوتر والتلويح بعمل عسكرى بين دولتى جنوب السودان وشماله، أو دعم الشمال لميليشيات عديدة متمردة على الجنوب، بسبب نزاعات الحدود والبترول التى استحوذ الجنوب على 75% من حجمها بعد انفصاله.
أو الحرب الأهلية الحالية التى إندلعت ديسيمبر 2013 بين قبيلتي الدينكا، التي ينتمي إليها جارانج وخلفه سلفا كير، وقبيلة النوير التي ينتمي اليها الجنرال رياك مشار قائد التمرد الحالي علي نظام سلفا كير، نائبه السابق، لأسباب عرقية ونفطية وأطماع سلطوية، والتى وصلت بالجنوب الى حافة المجاعة بعد قتل عشرات الألاف ونزوح مئات الألاف من الجنوبيين حسب تقارير الأمم المتحدة.
أيضا تدخلات بعض الدول فى الأزمة التى أعادت إحياء التحالفات الإقليمية القديمة قبل انفصال دولة الجنوب، والتى استعان سيلفا كير ببعضها رغم عدائها للخرطوم، كأوغندا على خلفية العداء التقليدى بين أوغندا "موسيفينى" وسودان "البشير" الذى لن يقبل بالوجود الأوغندى حول النفط.
أو سودان البشير نفسه، الذى خسر رهانه على تقسيم السودان كمخرج للأزمات الإقتصادية والأمنية، بعد تغير الموقف بإندلاع الصراع، مع قدرة الخرطوم المحدودة على التأثير فى التطورات المتلاحقة للحرب الأهلية، فأصبح التحالف مع المسيطر على أبار النفط هو السبيل للخروج من المأزق، إلا أنه لازال تحالفاً مؤجلا حتى يتضح الموقف بعد الجهود الدولية لوقف الحرب، بينما اختارت مصر دعم سيلفا كير بصفته الممثل لدولة الجنوب
أيضا بعض الدول والكيانات من خارج الإقليم، كالصين التى تربطها علاقات ممتازة مع رياك مشار، والتى لا يعنيها فى المقام الأول سوى النفط، أو الولايات المتحدة التى تظهر رغبتها فى حل الأزمة، رغم أن مصلحتها الحقيقية ستكون دعما لمن يملك الأرض وحقول النفط، ثم إسرائيل والتى من مصلحتها الأولى أنت يبقى جنوب السودان مشتعلاً لمنع أى دعم مائى يمكن أن يوفره أو يحمله الى مصر، العدو التقليدى.
موقف الكونغو الديمقراطية
هى أحد أول بؤر التوتر فى العالم، التى يقتل فيها الملايين بعيداً عن شاشات الإعلام والرأى العام العالمى، وقد دخلت فى حروب أهلية منذ 1998 تصدرت معها قائمة أخطر النزاعات المحلية منذ الحرب العالمية الثانية، امتدت الى خارج حدودها خاصة رواندا، حيث أيد لورنت كابيلا، رئيس الكونغو وقتها، مذبحة رواندا 1994 لمواطني قبيلة التوتسي، واحتضن جماعات الإبادة الجماعية ودمجهم مع جيشه، وبالتالى دعمت رواندا وأوغندا تلك الحرب الأهلية، أولا نكاية فى نظام كابيلا، وثانيا لتهريب مصادر والثروة من الكونغو الغنية الى الدولتين الفقيرتين.
استمرت الحرب خمس سنوات تقريبا، حتى هدنة أبريل 2003، بعد أن عبثت فيها كل الدول الطامعة فى موارد الكونغو الضخمة، لتجف خزائن أوغندا وراوندا بعد أن أتخمتها عمليات التهريب اثناء الحرب، لذلك أعلنت الدولتان، بعد الحرب، أنهما على استعداد لإرسال جنودهما الى الكونغو اذا تطلب أمنهما ذلك، بينما الحقيقة الواضحة أنه إذا تطلبت خزائنهما ذلك.
أيضا المصالح الإقتصادية التى استغلتها أوروبا من الحرب الأهلية، خاصة فرنسا وبلجيكا، ثم الولايات المتحدة ونفوذها على راوندا وأوغندا، أو مصالحها في الكونغو الديمقراطية بسبب مصادر الثروة المعدنية الضخمة التي تزخر بها، حيث تعتبر الكونغو أغنى دول العالم بمواردها الطبيعية، وأفقرها من ناحية دخل الفرد، وبعض معادنها يستخدم فى المفعلات النووية وفى الصناعات الإلكترونية الدقيقة جدا بكافة انواعها مثل معدن Columbite tantalite، وهو وحده كافيا ليجعل من الكونغو الديمقراطية مطمعاً لكل القوى الصناعية الكبرى أو الدول السماسرة الخارجية، بالإضافة للمخزون الضخم من الذهب والماس والنحاس.
وحتى كتابة هذا البحث، مازالت الكونغو الديمقراطية ضحية صراعات الحركات المسلحة، سواء فى شرقها كحركة 23 مارس، وجيش الرب الأوغندى، وما يسمى بالقوات الديمقراطية لتحرير رواندا المدعومة بتمردين بورونديين أدت الى تدخل الأمم المتحدة، أو نوع آخر من المقاتلين ضد بوروندى، القادمين من جمهورية الكونغو الديمقراطية الى منطقة "سيبيتوك" شمال غرب بوروندى.
لذلك، فما يحدث فى الكونغو ليس صدفة وانما تحركه أصابع مستفيدة، أو حسب تقرير لمجلة "فورين بوليسى"، فالصراع في جمهورية الكونغو الديموقراطية تدور رحاها بين 11 دولة منذ خمسين سنة على مساحة من الارض تتجاوز مساحة اوروبا الغربية، وقتل فيها 5 ملايين انسان وهذه المعارك مازالت مستمرة و برغم ذلك لا نسمع عنها اي شئ
كل ذلك، وغيره مما لم أذكره لضيق المجال، يفرض علينا التدقيق فى تعاطينا لأية تصريحات تغيبية للرأى العام حول مشروع نهر الكونغو، لا تستند الى منطق الأشياء أو طبيعة الأزمة، بعضها يطلقها رجال أعمال، مثل ما نشر على سبيل المثال عن الإنتهاء من إعداد جميع تصميمات وخرائط مشروع الربط والتوقيع على تصنيع معدات المشروع أيضا بعد الحصول على موافقة الكونغو الديمقراطية والسودان، وحدهما !، وأن المشروع سيدخل الخدمة خلال 30 شهرا كما حدد التصريح !! مع ملاحظة أن مسافة الحفر وحدها حوالى 600 كيلومترا بين نقطتى الربط على النهرين.
ورغم بديهية الإجابة بالحلول، المقابلة للإستفادة من نهر الكونغو مائيا، سواء عن التعاون التجارى والصناعى والدينى والتعليمى، أو مشاركة مصر فى إنتاج الكهرباء من نهر الكونغو بإتفاقية تستفيد منها جميع دول حوض النهر مادياً، وبقية دول الإفريقية من باب توفير السلعة، أو الطريق الذى سيربط بين الاسكندرية شمال مصر بكيب تاون افريقيا الجنوبية !
تبقى الأسئلة الثلاث المحورية الأهم، بعيداً عن حالة الهرتلة التى تشهدها سوق الإعلام المصرى وتوابعها، وتسويق الجميع لمشروع الكونغو كحل سحرى لكل مشاكل مصر سواء مع إثيويبا أو داخليا، غير مدركة لخطورة ما هو آت:
• الأول: كيف يمكن لمصر إستقطاب دول حوض النيل الأربع المشاركة فى حوض نهر الكونغو أولاً، ليمكنها إستقطاب الدول الخمس الأخرى ؟
• الثانى: كيف يمكن حل صراعات السلطة والمشاكل السياسية والإقتصادية التى تدفع الى الحروب الأهلية، أو الحروب بين الدول المشاركة بعضها البعض، وضمان استقرارية الحكم فى دول أصلا صنعتها الحروب العرقية والإنقلابات.
• الثالث: كيف يمكن لمصر تحجيم النفوذ الإسرائيلى بالدعم المادى الأمريكى المفتوح الذى لا يمكن لإمكانيات مصر الإقتصادية أو التقنية مواجهته ؟
• الرابع: كيف تضمن مصر للغرب عدم أطماعها فى الثروة الكونغولية التى ينهبها ذلك الغرب صبح مساء؟
ونستكمل فى الحلقة القادمة عن رأى الدراسة، ذلك إن أراد الله، ثم أذن مضيفونا وكان فى العمر بقية.
علاء الدين حمدى شوَّالى
[email protected]