أَنقعُ في الصداقة من أول مرّة كما نقعُ في الحُبّ من أول نظرة؟ سؤالٌ خطرَ لي مُذ عرفت عبدالرحمن الأبنودي، ثمة صداقةٌ وُلدت من الوهلة الأولى. ما إن تبادلنا لواعج شعر وحبر، وملحَ بلاد فَسُدَ ساستُها، حتى أمسينا صديقين ولو من بُعد، بيننا مسافات مدن وأجيال وتحولات ومستجدات، لكن على الرغم من كلّ هذا، ومن هالة «نجومية» أحاطت به حتى الرمق الأخير، ما من مرة ناديته إلّا كان سريع التجاوب تماماً كما هو سريع البديهة، شاعرٌ ساحرٌ لمّاح، حاضر النكتة و «الأفيه»، فيه من سُمرة الصعيديين ونخوتهم، كريم النفس والمشاعر، يغدق على أصدقائه مودةً لها مفعول ترياق، حتى بات احتساءُ كوب شَايّ بصحبته في منزله القاهري وجبةً دسمة من حكايات ومواقف تملأ جعبة الرجل وذاكرته الخصبة، وسط بستان كتب تتراصف كجيش متأهب على رفوف مكتبته العامرة، تؤنسها صورُ شعراء وأصدقاء يُباهي بهم ويُفاخر مشيراً إلى ثلاث أثيرة لديه لـ: محمد حسنين هيكل، نجيب محفوظ ومحمود درويش. فشاعرنا «صاحبُ صاحبه» وفق تعبير أهلنا في مصر الولَّادة رغم المحن والسنوات العجاف.
عالمُه طبقاتٌ عميقة، كلما اكتشفنا واحدة قادتنا إلى أخرى، من شعر المحكية المصرية إلى الشعر الغنائي بأصوات أهمّ المطربين وأشهرهم، إلى السيرة الهلالية ينكبُّ على جمعها بين صعيد مصر وتونس، حتى صحَّ فيه ما قاله الروائي بهاء طاهر: «شعرُ الأبنودي إلياذة مصرية، بل إلياذة صعيدية على وجه الخصوص». حمل معه إلى القاهرة سمات الصعيد ونكهةً تُميزه عن أي مكان آخر في الدنيا وفي «أمّ الدنيا»، ولئن كانت مركبات الفضاء الصاعدة إلى الكواكب والنجوم تتخفّف من حمولتها الثقيلة تباعاً ليسهل عليها التحليق، فتُلقي كلما ارتفعت أجزاء منها لم تعد نافعة، فإن شاعرنا فعل النقيض، احتفظ في رحلته نحو «النجومية» بأثقاله كلّها، لم يتخفّف من شيء، ولم يُخف شيئاً، حتى اسم أمه فاطمة قنديل صار شائعاً ومألوفاً لفرط ما ذَكرَها كتابةً ومشافهةً، ولعله ظلّ ذاك الصبيّ في حضرة أمه مهما تقدّم في الشعر والسنوات إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً.
أَتصحُّ كتابةٌ بصيغة الغائب عن شاعر له حضور راسخ في الوعي والوجدان الجَمعيين؟ نحتاج وقتاً كي نعتاد غيابَ «الخال»، مثلما نحتاج وقتاً للإحاطة بتجربته الإبداعية المترامية الجمال، المتجاوزة حدود مصر التي غنّاها (بأصوات الكبار) أجمل ما يكون الغناء، حالفاً بسمائها وترابها. مع قصيدته نعيد اكتشاف مقدرة كلامنا الشفهيّ العاديّ على أن يصير شعراً بالغ السلاسة والنفاذ. فالأبنودي الذي كتب مصر وفلسطين ولبنان والوحدة والمقاومة والحرية والثورة والميدان، يُثبت بنَصّه أن قضايانا الإنسانية الوطنية والاجتماعية لا تقلّل من قيمة النص الجمالية، لا سيما متى كان الشاعر بارعاً ماهراً متمكناً من اصطياد اللحظات الهاربة في حياتنا اليومية ليحوّلها قصائد فارقة في ديوان الشعر العربي، وفي وجدان الناس.
أول حوار تلفزيوني لي معه قبل عقدين سألته كيف يعيش مشاعر أبوّة اختبرها متأخراً مع ولادة ابنتيه آية ونور من زوجته الإعلامية السيدة نهلة كمال، أجابني بضحكته المؤنسة: «الندم والخوف». لماذا؟ «ندمي على ما فات من دون اختبار هذه التجربة الرائعة، وخوفي ألّا أعيش بما فيه الكفاية لأكون إلى جانب ابنتيَّ». رحل والد آية ونور و «خال» الجميع، مضى جسداً، وبقي حاضراً بهما، وهما قصيدتاه الأنقى، وبقصائده المدوَّنة في كتبه، وفي حناجر المغنين وأفئدة الناس الذين ظلَّ منحازاً إليهم شعرياً، حتى لو كانت له مواقف وآراء سياسية موضع جدل وسجال.
في لقائي الأخير معه ضمن برنامج «بيت القصيد» قبل تسعة أشهر، كانت لآية مشاركة، خاطبت أباها بمطلع إحدى قصائده: شبت يا وَاد، والله وعجّزت يا عبدالرحمن! مُعتزةً لكونها ابنته، سائلةً عن موقفه لو فعلت ما فعلَ قبل عقود حين غادر «صعيده» بغير رضى والد خاصمه ردحاً، آتياً إلى القاهرة برفقة الشاعر أمل دنقل والروائي يحي الطاهر عبدالله. ضحك الأبنودي من سؤالها «الخبيث» (وفقَ تعبيره)، وأسهبَ بشغف وحُبّ عن آية ونور، وكيف وفّر لهما تعليماً ممتازاً في الجامعة الأميركية في القاهرة، ممازحاً إياهما بقوله: «بُكرا يقولوا عليَّ خَلّفت أجانب»، ناصحاً آية (بذكاء ودهاء) بالعودة إلى أبنود لتدرس «سنتين صعيدي»(!) إلى جانب ما درسته في الجامعة، مؤكداً أنه لا يزال شاباً في السادسة والسبعين، ولا يحقّ لها أن تحسبه على «العواجيز» لأنه معارض الشرس لـ «عواجيز» السياسة والحُكم.
قَدَّرَ الله وما شاء فعل، مضى الأبنودي في عزّ شبابه الشعري، تاركاً قصيدتين جميلتين مكتوبتين بحبر الصُلب والقلب تشقّان دربَ آلامهما وأمالهما نحو أيام «عساها أفضل من أيامنا» كما قال يومها، أما قصائده المكتوبة بحبر الإبداع فيلزمها أكثر بكثير من هذه العُجالة، لأن البحر لا يُسكَب في قارورة.
زاهي وهبي