إذا كان العامل الأول وهو الداخلي، ينطوي على قدر من العفوية، فإن العامل الثاني ينطوي على فعل مخطط، ومعروفة أهدافه، ولذلك فإن عامل التخطيط، يكون في هذه الحالة اكثر تأثيراً او اشد قوة من العامل العفوي، إلى الحد الذي يجعل العامل الأول قادراً على توظيف العامل الثاني العفوي، والتلاعب به، لخدمة الأهداف المخططة مسبقاً.
ليست الدول القومية، هي فقط التي تخضع لمخططات التجزئة والتفتيت بل إن الاتجاهات والتيارات السياسية هي الأخرى تخضع للهدف ذاته، أي التجزئة، والغريب أن نراها مستجيبة عن وعي وعن غير وعي، لتلك المخططات.
التيارات الإسلامية مشتتة، موزعة، متضاربة، إلى أبعد الحدود، بالرغم من أنها تعتمد العقيدة ذاتها وهي الإسلام، لكن كلا منها يقرؤها ويفسرها بطريقته الخاصة. المسلمون السياسيون منقسمون إلى سُنّة وشيعة، والطوائف الأخرى الثانوية موزعة على هذين الطرفين، وهم أيضاً، منقسمون بين إسلام معتدل وإسلام متطرف، وتحت كل مسمى من هذه المسميات، ينقسمون مرة أخرى، وأخرى إلى الحد الذي جعل هذه الجماعات، تقدم أسماء لها، بالكاد يمكن حصرها.
وبالمناسبة فإن من يعود إلى استخلاصات مؤتمر هرتسيليا الثالث عشر، سيعثر على توصية تتحدث عن أن إسرائيل ينبغي أن تعمل من أجل بلورة تيارين متصارعين في المنطقة منقسمين بين شيعي وسُنّي.
الوطنيون والديمقراطيون واليساريون والليبراليون هم أيضاً، موزعون على أسماء ومسميات بالكاد يمكن حصرها، وإذا أخضعت هذه التيارات للدراسة، فإن الدارس سيجد تماثلاً شديد الوضوح في برامج وأهداف العديد منها في البلد الواحد.
المشهد العربي يشير إلى أن الكل ضد الكل رغم أن كل كل موزع إلى فسيفساء، بينما يتضاءل الاهتمام، والنضال ضد العامل المخطط، أي الخارجي المتمثل في التحالف الأميركي الإسرائيلي، ولذلك يفقد الكل البوصلة، ويتخبطون في تيه الأهداف بدون أن يتفاجؤوا، حيث يفترض أن يتفاجؤوا من أنهم يخدمون أعداءهم وأعداء شعوبهم، ويلحقون أضراراً بليغة بأنفسهم.
الساحة الفلسطينية ليست بمعزل عن ذلك، رغم اختلاف ظروفها لكون كل العاملين فيها، يناضلون من أجل التحرر الوطني، وتحقيق الاستقلال. ولأن الفلسطينيين يعتبرون أنفسهم طليعة الأمة العربية فيما يتعلق بالتحرر الوطني، ولأنهم أيضاً، أصحاب ثورة، فإنهم كانوا طليعيين أيضاً، في تحقيق الانقسامات، ودفعها إلى حد الصراع، رغم ادعاء الكل بأنه الأحرص على تحقيق الوحدة الوطنية، والأكثر وعياً لطبيعة المخططات الإسرائيلية. الجماعات الإسلامية في فلسطين كثيرة العدد، بالرغم من أن حركة حماس أكثرها قوة وتأثيراً، الأمر الذي يثير الاستغراب من أن عديد هذه الجماعات لا تقدم برامج مختلفة عن برنامج حماس، وان معظمها يتبنى المقاومة كما تفعل حماس.
اليسار الفلسطيني موزع على نحو خمسة مسميات، هذا إذا استثنينا أن بعض الفصائل غير المحسوبة على اليسار، يعتبر نفسه يساراً، ولا يعرف أحد لماذا يستمر هذا التشرذم، ولماذا فشلت عديد المحاولات السابقة في لمّ شمل اليسار.
اليساريون اشد من يطالب بالوحدة الوطنية، وأقلّ من يعمل من أجل وحدة اليسار، رغم أن البرامج متقاربة إلى أبعد الحدود، سواء فيما يتعلق بالالتزام الأيديولوجي، أو الاجتماعي، مع تقديرنا للخلاف السياسي، الذي تتخفف قيمته بالنظر لأن المخططات الإسرائيلية، لا تجعل الفوارق السياسية ذات معنى.
والحال أن الكل يكذب على الكل، فمن يطالب بالديمقراطية عليه أن يلتزم بمبادئها في داخل فصيله، ومن يطالب بالوحدة عليه أن يقدم النموذج على نفسه.
التيار الوطني هو الآخر موزع على مسميات يصر كل منها على الاستمرار بالرغم من أن الحياة لا تزكي مثل هذا العناد، ذلك أن حركة فتح وهي الأكبر والأقوى، تسمح آليات عملها ونظامها الداخلي، باستيعاب كل هذه المسميات. غير أن «فتح» هي الأخرى تعاني من عصاب وعدوى الشرذمة، إذ لم تكن أحوال هذه الحركة القائدة، التي يُعوّل عليها الكثيرون، أسوأ مما هي عليه اليوم، لم تستفد «فتح» من تجربة الانتخابات التشريعية السابقة، حيث أدى تشرذمها إلى فوز حركة حماس، ولم تستفد من تجربة الانتخابات المحلية، التي جرت في الضفة الغربية، وقد أدى تشرذمها إلى خسارة فادحة في انتخابات جامعة بيرزيت الأخيرة، وهي لن تكون الخسارة الوحيدة أو الأخيرة إذا استمر حال فتح على ما هو عليه.
خسارة «فتح» وتراجعها هو خسارة للمشروع الوطني، ولذلك مطلوب من قيادتها أن تعيد النظر، وأن تتخذ قرارات جريئة لإعادة توحيد صفوفها، بما في ذلك وأساساً، معالجة الأزمة مع النائب الفتحاوي محمد دحلان، ومواليه وهم ليسوا قلّة.