حركة فتح .... الانطلاق من أصالة الجذور نحو عالمية الهوية

بقلم: عماد مخيمر

يتغير العالم من حولنا بشكل متسارع أفقيا ورأسيا, وتتخذ المفاهيم مضامين وأشكال متطورة, ولم يعد هناك متسع من الخضوع لقوالب ومفاهيم جامدة غير قابلة للتطوير, فالسمة الأساسية للمرحلة الكونية التي نمر بها هي عدم الإطلاق والخضوع الكلي للنسبي, ولكن تبقى هناك الإطارات والتي تشتمل على قيم وآليات مجردة ومناهج تفكير تتميز بثبات نوعا ما, ولكنه ثبات متغير في داخله وفي تفاعل مكوناته, أي انه ثبات في المظهر الخارجي لا المضمون الداخلي. يقول الكاتب والمفكر اللبناني/ علي حرب "المجتمعات البشرية تدخل في عصر جديد هو عصر الاعتماد المتبادل ... ومن المتعذر الآن الفصل الحاسم بين الداخل والخارج, فيما المجتمعات البشرية تنخرط في واقع كوني جديد يقوم على تشابك المصالح والمصائر والاشتراك في المخاطر.. وتنسج العلاقات بين البشر بواقع قائم على الاعتماد المتبادل لا مجال لفهمه وتدبره وإدارته والتأثير في مجرياته بمفردات التعصب والانغلاق ... وهذا لا يعني إلغاء المحلي أو إلغاء الوطني, بقدر ما يعني تشكيل وعي كوني يعمل على إعادة منظومة الحقوق والعلاقات الدولية", ومن هنا ننطلق لقضية تتعلق بحركة فتح, والتي جاءت بالمشروع الوطني الفلسطيني, واستطاعت رسم شخصية وهوية الإنسان الفلسطيني, هذه القضية تتعلق كيفية حدوث تطورها وماهيته بما يتناغم مع الواقع الفلسطيني والمتغيرات الإقليمية والدولية.
عندما انطلقت حركة فتح في العام 1965, لم تكن هذه الانطلاقة وليدة اللحظة, أو حدثا عابرا في مجرى تاريخي لقضية متشابكة الخطوط والمعالم, ولكنها كانت انطلاقة لها جذورها وإرهاصاتها وسيرورتها, وبتناول الظروف التي أدت إلى انطلاقة حركة فتح من خلال تقسيمها إلى ظروف موضوعية وأخرى ذاتية من جانب, وظروف ممكنة وواقعية من جانب آخر, أما الظروف الموضوعية - وبدون تفصيلات واسعة- فقد تمثلت في واقع عربي رسمي يحمل التناقض في الخطاب السياسي والممارسة الفعلية تجاه القضية الفلسطينية, فالخطاب السياسي العربي كان حماسيا ويظهر فيه الرغبة والنية والإمكانية لتحرير كامل التراب الفلسطيني, ولكنه في واقع الممارسة خسر حرب 1948 ولم يستطع الصمود في المعركة مع الحركة الصهيونية, علاوة على فشله في خلق واقع أو مناخ لنمو الحركة الوطنية الفلسطينية, بل على العكس وقف معوقا لنمو هذه الحركة, ودخل هذا النظام في صراعات ما بين معسكرين الأول ينادي بأن الوحدة العربية هي الطريق لتحرير فلسطين, والآخر ينادي بأن تحرير فلسطين هو طريق الوحدة, وكل معسكر يتهم الآخر في وطنيته وقوميته, مما خلق حالة من التشتت والتمزق في الموقف العربي الموحد, في الوقت الذي كان فيه عامل الزمن يمضي لمصلحة الكيان الإسرائيلي الوليد بترسيخ وجوده في غياب الفعل العربي الحقيقي, أما الظروف الذاتية - وبدون استطراد طويل- فقد كانت تؤشر لضرورة لقيام الإنسان الفلسطيني بأخذ زمام المبادرة والانفكاك من سيطرة النظام الرسمي العربي, والقيام بدوره في معركة تحرير الأراضي الفلسطينية, أي انه يجب على الذات الفلسطينية الخاضعة للتشتت والتهجير والقتل, علاوة على إحساسها بالإحباط من تجاهل النظام الرسمي العربي - في معظمه - للإنسان الفلسطيني, وعدم اعتباره كيانا موجودا باستقلاليته ولكنه مرتبط بشكل وثيق بالنظام الرسمي العربي وبخطابه السياسي وبطموحاته البعيدة عن أرض الواقع, هذه الرؤى الذاتية دفعت بالإنسان الفلسطينية وانطلاقا من القناعات السابقة إلى البحث عن كينونته السياسية والثقافية والاجتماعية وإلى خوض معركته وفقا لرؤاه وأدواته المتاحة. هذا عن الظروف الموضوعية والذاتية لانطلاقة حركة فتح.
وبالحديث عن الظروف الممكنة والواقعية من جانب آخر, فيمكن القول بأن الممكن يختلف عن الواقع, فالممكن يقع في إطار الرغبة والتمني, أما الواقع فهو موجود ويؤثر وتظهر نتائجه, بقراءة سريعة للعقل والفكر العربي وقتها - قبيل انطلاقة حركة فتح - فإن هذا الفكر كان يقول بتحرير فلسطين وهو أمر ممكن ولكن في حالة توفرت عوامل التحقق, في إيجاد وحدة عربية - كلية أو حتى جزئية - وتكريس المجهود المشترك وخلافه, وهنا يظهر تساؤل ففي وجود تياران عربيان أحدهما يضع الوحدة العربية شرطا لتحرير فلسطين, والآخر يضع تحرير فلسطين شرطا للوحدة, أي أن هناك علاقة متناقضة, بمعنى أوضح هناك إشكالية مأزومة, وهذا يعني صعوبة تحقيق الممكن, هذا على المستوى العربي, أما فلسطينيا فقد كان الممكن تحرير فلسطين بذاتية فلسطينية - كما قالت حركة فتح في انطلاقتها- وبغطاء وعمق عربي, وهذا الفكر أقرب للتحقق, حيث أن التناقض بين التحرير والفعل الفلسطيني والدعم والعمق العربي ليس حادا بتلك الدرجة التي يخضع لها الممكن العربي هذا من ناحية, أمام الناحية الأخرى والمتعلقة بالواقع, فالواقع العربي تجسد في حالة تمزق وتجزئة واختلاف في الرؤى والفكر والأيديولوجية, وكلها عوامل تقف عثرة في طريق تحرير فلسطين, في مقابل واقع تحقق وجود دولة إسرائيل وتمركزها وبدعم امبريالي لها, مما أدى لجعلها حقيقة تزداد رسوخا وقوة بمرور الزمن, في الوقت الذي كان يعمل فيه الزمن بعكس رغبة العرب بتفاقم الخلافات وتكريس التجزئة والاختلافات الخ, أما فلسطينيا فهناك واقع شعب هجر وسلبت أرضه وتتعرض هويته للاستلاب, وهو واقع يستلزم التحرك ذاتيا لتغييره, ومع تولد الشعور الفلسطيني والإحساس بهوية مستقلة في مضمونها ومرتبطة وظيفيا بالأمة العربية والإسلامية, تشكل واقع جسدته حركة فتح بانطلاقتها, هذا الواقع هو خوض المعركة وتقدم الصفوف وأخذ المبادرة لتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني.
لقد مرت حركة فتح منذ انطلاقتها في العام 1965 بالعديد من التغيرات والتحولات, وبقراءة سريعة نجد أنها منذ البداية قالت بالكفاح المسلح وبضرورة قيام الجماهير الفلسطينية بدورها الطليعي في معركة تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر, مع الانعتاق من الوصاية الرسمية العربية, ولكن هذا الانعتاق لا يعني الفصل التام, بل اعتبار العمق العربي هو ذخيرة إستراتيجية, بمعنى آخر اعتبرت حركة فتح أن دورها يأتي منسجما ومتكاملا مع الفكر العربي الداعي لتحرير فلسطين كأساس لتحقيق الوحدة العربية, وهنا يبرز أن حركة فتح اعتبرت نفسها ركنا من منظومة متكاملة لا مجرد تابع أو رديف لهذا أو ذاك. وكانت المحطة الأولى والتي ساهمت في تعزيز وتكريس وجود حركة فتح وهي هزيمة 1967, والتي أدت إلى بروز قناعة لكل الوجدان العربي بفشل النظام العربي الرسمي في معركة المواجهة مع إسرائيل. مما ساعد وبكثير هائل على الالتفاف الجماهيري حول طرح حركة فتح, وهذا الالتفاف كان مزيجا من أيديولوجيات ومنطلقات فكرية متعددة, كون حركة فتح لم تتبنى أي أيديولوجية فكرية معينة, وراهنت على الكفاح المسلح كونه الإطار القادر على احتواء كافة الأفكار والأيديولوجيات, وهذا ما نجحت فيه حركة فتح التي ضمت القومي والإسلامي واليساري في صفوفها. جاءت حرب الكرامة 1968 وصمود حركة فتح وفصائل أخرى في المعركة مع إسرائيل, لتتكامل المشاهد وتنضج الوقائع وتمهد الطريق لسيطرة حركة فتح والفصائل الأخرى على منظمة التحرير الفلسطينية, وبعد وقت قليل تتمكن من انتزاع اعتراف النظام الرسمي العربي بمنظمة التحرير بشكلها الجديد كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني, ليكون تحولا وتطورا آخرا أعطى لحركة فتح الشرعية العربية ومنحها أداة سياسية تشرعن كفاحها المسلح وفعلها الثوري. وجاءت المواجهة مع النظام الملكي الأردني (أيلول 1970) لتشكل انتكاسة لمنظمة التحرير عامة ولحركة فتح عامة, وأجبر منظمة التحرير على مغادرة مواقعها في خطوط المواجهة المنطلقة من الأردن إلى لبنان, مما أسهم في اعتراء حالة من الإحباط والتراجع بعد مرحلة الانتصارات, مما أضعف الرهان على العمق العربي في نظامه السياسي الرسمي, وشكل بداية تحول جديد لحركة فتح باتجاه التعامل مع الوقائع الجديدة.
وهناك محطات أخرى هامة ساهمت في إحداث تحول لدى حركة فتح وانتقالها لمربع آخر, منها حرب 1973, تلك الحرب والتي رغم انتصار العرب فيها (مصر وسوريا) على إسرائيل, وإظهارها صورة من الممكن وتحقيقه في الواقع العربي تجسد في استخدام سلاح النفط في المعركة ونوع من التكامل والمساندة, إلا أن تلك الحرب أظهرت جانبا استطاعت حركة فتح قراءته, هذا الجانب أظهر أن هذه الحرب هي أقصى ما يمكن القيام به عربيا, وأن نتائجها فرضت رؤية سياسية بضرورة إنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي وفق قرارات الأمم المتحدة وخصوصا قراري 224 و338, لقد خلق واقع جديد ومتغيرات مختلفة, لقد ظهر أن تحرير فلسطين كاملة ضربا من غير الممكن تحقيقه في المدى القريب في ظل النظام الدولي القائم, وفي ظل الإمكانيات العربية المتاحة, ومن هنا لابد من الواقعية في فكر حركة فتح إن أرادت البقاء والحفاظ على الهوية الفلسطينية, وعدم اصطدامها مع النظام الرسمي العربي كما حدث في أيلول 1970, لذلك كله اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح قرارا بتبني مشروع النقاط العشر أو المرحلية (وهو المشروع الذي بلورته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطيني) في العام 1974, وخلاصة هذا البرنامج إقامة كيان فلسطيني على أي بقعة يتم تحريرها من أرض فلسطين, بدون الانتظار لتحرير كامل التراب الفلسطيني, لقد شكل هذا البرنامج التحول الأكبر لدى حركة فتح, وجعلها تتخذ الوسائل السياسية والدبلوماسية جنبا على جنب مع الكفاح المسلح في مشروعها الوطني الفلسطيني, وقد استمر ذلك النهج وصولا إلى حرب لبنان 1982 وخروج منظمة التحرير من آخر خطوط المواجهة مع إسرائيل, وذهابها إلى تونس بمعنى بعدا جغرافيا مؤثرا على المواجهة المباشرة وبالتالي النيل من أداة الكفاح المسلح, ولتأتي انتفاضة العام 1987, لتشكل بعثا جديدا لحركة فتح, ولكنه هذه المرة تم تغليب الوسائل السياسية ليكون إعلان قيام دولة فلسطين 1988, وتستمر الوقائع والمتغيرات وتأتي حرب الخليج 1990 لتقضي على أطروحة العمل العربي المشترك وتنهي حلم الوحدة, ونتيجة لذلك تم فرض مؤتمر مدريد من قبل الولايات المتحدة المنتصرة في حرب الخليج في العام 1991, ولم يعد أمام منظمة التحرير وحركة فتح سوى القبول به بالنظر إلى الحالة العربية المتردية وعدم انبثاق أي أفق جديد, وتتوالى الحلقات وفي العام 1993 تم توقيع أوسلو الذي شهد ولادة أو سلطة وطنية فلسطينية في الضفة وقطاع غزة, وتستمر الأحداث وصولا إلى فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في العام 2006 بعد اغتيال أبو عمار في العام 2004, ومع فوز حركة حماس برز متغير جديد وطارئ على الساحة الفلسطينية وهو صراع الإرادات في السيطرة على السلطة وحرب الشرعية بين حركتي فتح وحماس, لينتهي الأمر بالانقسام الفلسطيني والذي لا يزال يضرب عميقا في القضية الفلسطينية.
كان ما سبق استعراضا لأهم المحطات والوقائع التي أدت لحدوث التحولات لدى حركة فتح, ولقد تعمدنا ذكر هذه المحطات لنؤكد على المرونة التي تتمتع بها حركة فتح وقدرتها على التعامل مع المتغيرات من حولها, مما يؤهلها لإحداث التغيير المأمول والذي يمكن معرفته من خلال التساؤل التالي : ما علاقة هذه التحولات بأصالة الجذور والهوية العالمية؟
الأصالة تعني الانتماء إلى التراث, هذا التراث والذي هو مجمل العادات والقيم والتقاليد والمعارف وما خلفه الأجداد لكي يكون درسا من الماضي ونهجا يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل, وبعبارة أخرى هو الناتج الثقافي للأمة والتي تميز الشعب الفلسطيني عن غيره من الشعوب, إذن هو جامع للشخصية الفلسطينية في إطارها المحدد لملامحها الثقافية والمحدد لوجدانها وأفكارها, ولكن تظل هناك مسألة الانتماء إلى التراث فهل تعني أن نقف أمامه نتغنى به ونمجده ونكتفي به ونعتبره مقدسا لا يقبل التأويل أو التغيير, أو نأخذ به بدون عقلانية أو دراسة أو مطابقة للواقع. بالإسقاط على حالة حركة فتح نجد أنها صحيح انطلقت للحفاظ على الشخصية الفلسطينية والتي هي نتاج للتأثر بتراثها, ولكن تظل هناك مسألة هامة أو مركزية وهي أن الأصالة لا تعني فقط الانتماء لتراث بكل مكوناته, ولكنها أيضا تعني المراكمة على نتاج هذا التراث, وهذه المراكمة لا تأتي بمجرد الانصهار في التراث أو الالتزام بتفاصيله, بل يجب أن تكون دافعا للعقلانية والتاريخانية, فالعقلانية تحتم حضور التاريخ وسيروراته في الفكر والعقل ليظهر أثر التجربة والاستفادة منه مما يساهم في الإضافة له ويساهم في تشكيله بطريق تضمن إحداث التغيير المنشود, أما التاريخانية فهي تعني حضور العقل في مجرى التاريخ لكي نفسره بما يتناسب مع الواقع المعاش مما يسهم في تغيير الواقع وتحقيق الأهداف, ومن هنا فإن حركة فتح مطلوب منها اليوم أن تعيد قراءة تجربتها وفقا للنظرة الجديدة للأصالة, تلك النظرة النقدية والعقلية والتاريخانية, بما يعني إضافة أدوات تقييم قادرة على عملية الفرز من التراث, والفصل ما بين هو لا يصلح لواقعنا وين ما يصلح لواقعنا بعد تطويره وفقا للمتغيرات الحالة, بمعنى آخر فإن التمسك بالماضي ككلية جامعة غير منفصلة لا يمكن أن يؤدي إلى التطور, ولكن الأسلم أن يتم تفكيك هذا الماضي والموروث إلى أجزاءه وبنيته المكونة لكي يمكن الانتقاء بما ويناسب مع الواقع الحالي, ومن الأهمية بمكان تفكيك منهجنا الفكري الموروث لكي نواجه العالم اليوم بمتغيراته وأزماته وتطوراته بما يمكننا من وضع أقدامنا على بداية الطريق, المطلوب من حركة فتح ألا تلغي أصالتها ولكن تجعل هذا الأصالة نقطة انطلاق - وفقا لما سبق ذكره - نحو إعادة البناء في اتجاه الفهم أن نحن من هذا العالم والذي بات متشابك المصالح والهويات.
أما فيما يتعلق بالهوية الفلسطينية والمطلوب من حركة فتح لإحداث التطوير فيها, فيمكن القول أولا وفي تعريف الهوية وبشكل عام بأنها ذلك المجموع من السمات المتعلقة بالفكر والعاطفة والروح والتي تميز مجتمعا بنظمه القيمية وتقاليده ومعتقداته وطرائق إنتاجه الاقتصادي والثقافي, كل ذلك يشكل أساسا لتولد الوعي لمواجهة القضايا المصيرية في خصوصية تميز هذا المجتمع. أما في حالة الشعب الفلسطيني فإن هويته تتميز بخصوصية تتمثل في أن تشكلها وتبلورها جاء لمواجهة لمشروع غزو واستيطان صهيوني استهدف كافة مكونات هويته الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية, بمعنى آخر عملية اقتلاع للفلسطيني وإحلال للصهيوني, إذن الهوية الفلسطيني تشكلت كرد على الاحتلال ولمواجهته, ومن هناك جاءت انطلاقة حركة فتح لتضفي البعد الكفاحي والنضالي في الهوية الفلسطينية, صحيح أن هذا البعد كان موجودا منذ زرع أول مستوطنة يهودية في العام 1882 وبداية المشروع الصهيوني, إلا أن حركة فتح كرسته بقواعد أسس وبناء تنظيمي, أي منحنه الشكل الوظيفي والبنيوي, بمعنى آخر فإن حركة فتح قامت بتطوير الهوية الفلسطينية, حيث أن الفهم العام للهوية يقول بأنها ليست شكلا نهائيا بل ومن الممكن خضوعها للتطوير والتغيير كونها امتداد للتاريخ وتفاعل مع مجرياته ومشاركة في بناء الحضارة, وهذا يعني أن الهوية الفلسطينية خاضعة لتلك المقولة, وبالتالي يجب العمل على تطويرها كونها خاضعة لقانون التطور فهي تمر بفترات من التوهج وأخرى من الانطفاء, لذلك يكون لزاما العمل على إبقاءها في حالة توهج, وهذا لن يكون إلا بقراءة عقلانية للواقع ومتغيراته وترابطاته وتشابكاته, فالعالم اليوم يمر بمرحلة تحولات في المفاهيم, وفي النظريات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية, بحيث باتت مفاهيم الأمس لا تصلح لليوم, العالم يسير في اتجاه خصائص موحده وسمات وقيم تضم الكل, وقد لا نكون مخطئين إذا قلنا أن هناك هوية عالمية تتبلور, هوية بخصائص إنسانية جامعية, تتكون من مركبات ومكونات في إطار متكامل, ولكن كل مركب أو مكون يتميز بخصائصه الذاتية, وبدون التأثير على المكون الأكبر لهذه الخصائص, أي كل السمات الخاصة بالمكونات الفرعية تمتزج لتشكل تلك الهوية, لذا المطلوب من حركة فتح التعامل مع ذلك الأمر بمنتهى الدقة والتفهم, وهذا يتطلب بدوره تطوير خطابها الوطني والسياسي والثقافي والاجتماعي بلغة يفهمها العالم, مع الحفاظ على الخصائص والسمات الأصيلة للهوية الفلسطينية, والانطلاق من الفهم العالمي والانخراط في الهوية العالمية وتعرية إسرائيل بسياساتها العنصرية ومحاولاتها فرض يهودية الدولة مما يعني إعادة الحرب الدينية والعودة بالعالم إلى القرون الوسطى الظلامية, إضافة لجرائمها الوحشية وحروبها المستمرة, ولغة القوة التي تستخدمها والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها, كل ذلك مع تطوير المشروع الوطني الفلسطيني وإصلاح النظام السياسي علاوة على التمسك بكافة الوسائل للتحرر من الاحتلال وفق الشرعية الدولية, أي إقناع العالم بأننا نشكل مكون مفيد في منظومة الهوية العالمية, وأن إسرائيل تشكل الوجه القبيح للحضارة الغربية في حال استمرار أوروبا والولايات المتحدة بدعمها.
تواجه حركة فتح تحديها الأهم منذ انطلاقتها قبل نصف قرن من الزمان, وربما يكون هذا التحدي يقترب يتعلق وبشكل كبير بوجودها نفسه, بمعني أن حركة فتح مطالبة اليوم بعملية نقد ذاتية, هذا النقد يشمل جميع مكوناتها ومنطلقاتها وأهدافها وأسسها, هو نقد الذات بتفكيكها وتعريتها بشكل صريح وواضح, والوقوف على تلك الإشكاليات التي كانت وراء الواقع المأزوم الذي يعصف بحركة فتح, هو نقد للذات بحثا عن بناء ذات تحمل من السمات ما يجعلها قادرة على إحداث واقع جديد من خلال سيرورة قادرة على وضع حركة فتح في الاتجاه الصحيح هذا من جانب, ومن جانب آخر يجب على حركة فتح قراءة عقلانية وتاريخانية للواقع الداخلي, والمحيط الإقليمي, والنظام العالمي, إن معرفة واقع أي معطى أو شكل أو نتيجة أو حدث, يمنح الفرصة لفهمه والتعامل معه بحيث تتوفر الإمكانية للتأثير فيه, ومن هنا فإن على حركة فتح فهم الواقع الفلسطيني جيدا بما هو كائن لا بما هو ممكن أو مأمول, والعمل على تغيير الواقع بحيث تصبح هي المؤثر الأساسي فيه وبالتالي تعود لها جماهيرتها, ويزداد الالتفاف حولها كونها قاربت الواقع وأصبحت جزءا منه وبالتالي وبشكل تلقائي تصبح أكثر مصداقية وأكثر تماهيا مع الجماهير بواقعها وهمومها وأحلامها وأمانيها. وإقليميا على حركة فتح فهم الواقع بمتغيراته الجديدة وبخارطته السياسية التي تشكلت وبالقوى الصاعدة والمؤثرة فيه, والأدوار المرسومة وموقع المنطقة من النظام العالمي, وبناء على هذا الفهم والتحليل والنقد للواقع الإقليمي يتم بناء رؤية خاصة بحركة فتح لتحديد موقعها وبالتالي تحديد أدواتها اللازمة للتأثير والاستفادة من كافة المتغيرات أي كان شكلها. أما عالميا فعلى حركة فتح قراءة الواقع العالمي قراءة موضوعية بعيدا عن لغة الشعارات, فالعالم اليوم أصبح وفي ظل ثورة المعلومات والاتصالات وصعود قوى جديدة (القوة الناعمة) وتغير معايير القوة والتحالفات الدولية, إضافة إلى التوجه العالمي نحو تكريس توجه جديد بإلغاء الجغرافيا السياسية والانطلاق من أن العالم قرية صغيرة, وأن الحدود الدولية في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات باتت أقل أهمية, والمعنى أن الدولة بخصائصها وممارسة السلطة فيها تتجه نحو التغير, وباتت هناك سيطرة لجهات تتحكم بتقنيات وتكنولوجيا المعلومات وما شابه, المحصلة أن النظام الدولي بات متغيرا, ولكن هذا التغير لا يلغي الخصوصية الثقافية والهوية المميزة لشعوب الأرض. ولكي نكون جزءا منه لابد من فهم هذا التغير, والانطلاق بعقلية متفتحة ومبتكرة قادرة على أن تكون جزءا من هذا العالم, المطلوب من حركة فتح خطابا جديدا تخاطب فيه العالم يظهر أن الفلسطينيون بثقافتهم وهويتهم يشكلون إضافة لهذا النظام الدولي, وذلك في موازاة تعرية المشروع الصهيوني وإبراز خطابه العنصري الاستيطاني الاقتلاعي والدموي والتعصبي, وإقناع العالم بأن هذا الخطاب الصهيوني المجرم يشكل تهديدا للإنسانية بأكملها ويمهد الطريق للعودة بالعالم إلى العصور الوسطى من خلال إصرار هذا الخطاب على رواية أسطورية يحاول أن يخلع عليها الدين والتاريخ لتبرير جرائمه ضد الإنسانية. وفي مواجهة هذه الرواية الصهيونية يظل على حركة فتح التمسك بأصالة الجذور البعيدة واقعا عن الخرافة والأسطورة والمستندة على الحقائق التاريخية لتكون هي المنطلق نحو تحقيق عالمية الهوية بملامح فلسطينية.

بقلم أ. / عماد مخيمر