رغم الخطورة الشديدة التي تكتنف العمليات العسكرية البرية، والتي تجبن عن خوضها أقوى الجيوش وأشدها عتواً، وأكثرها تسليحاً وأحدثها عتاداً، وأكثرها خبرةً وتجربةً ودراية، ورغم فارق القوة وتميز التنظيم، وتقنية الاتصالات وسرعة التنقل والإمداد، وجاهزية الإسناد والحماية، إلا أن الجيوش النظامية بصورةٍ عامة تخشى التورط في حروبٍ بريةٍ، وتتردد كثيراً في النزول على الأرض، وخوض معارك ميدانية، وتكتفي بالغارات الجوية، والقصف الصاروخي والمدفعي من أماكن بعيدة، الأمر الذي يؤخر الحسم، ويزيد في حجم الدمار والخراب، ويؤدي إلى سقوط أعدادٍ كبيرة من القتلى والجرحى، ومع ذلك فإنه يتعذر على الجيوش التي تعتمد القصف الجوي فقط تحقيق النصر الحاسم، إلا إذا أعلن الطرف الآخر استسلامه وخضوعه، وأبدى رغبته في إنهاء العمليات العسكرية، والقبول بشروط وقف إطلاق النار.
إنهم يخافون من العمليات البرية التي يواجهون فيها مجموعاتٍ عسكرية مدربة ومؤهلة، وتمتلك أسلحةً حديثة ومتطورة، وعندها الجرأة والكفاءة، والعزم واليقين والإرادة، ولديها خطط وتصورات، وعقيدة وإيمان، ما يجعل الجيوش النظامية ضعيفة أمامهم وإن كانت أقوى منهم، وأكثر تسليحاً، إلا أن قادة الجيوش ورؤساء الأركان يرون أنهم لا يستطيعون مواجهة أهل الأرض، وأصحاب الخبرة، وسكان البلدات الذين يعيشون بين أهلهم، ويقاتلون ببسالةٍ من بينهم، خاصةً إذا كانت الجيوش تقاتل في بيئةٍ غريبةٍ عنهم وأرضٍ جديدةٍ عليهم، الأمر الذي يجعلها تعيش كوابيس الوقوع في الفخاخ التي تنصبها المجموعات العسكرية، أو تجد نفسها مضطرةً للمرور في ممراتٍ إجبارية، تُستَدرَجُ إليها خدعةً، مما يجعلها تقع تحت كثافة النيران، التي قد تحصد منها أرواحاً كثيرة، أو قد تؤدي إلى وقوع بعض الجنود أسرى.
إلا أن قادة الجيوش النظامية، يؤكدون على الرغم من كل هذه المخاطر، أنه لا غنى أبداً عن الحروب البرية لحسم المعارك، وإخضاع الخصم وفرض الشروط، وإلا فإن المعارك ستكون مضيعة للوقت إذ أنها تطول، واستنزافاً للقدرات كونها تفتقر إلى الدقة المطلقة، فالقتال الحقيقي هو القتال على الأرض، والحرب الحاسمة هي الحرب البرية التي تخوضها الدبابات ويتحرك فيها الجنود، الذين يواجهون الخصم ويطهرون الأرض، ويعلنون تمام الحسم، ويرفعون فوق الأرض علم الانتصار، وإن ساندها الطيران وسلاح المظلات، واشتركت فيها البوارج الحربية، وسبقتها الصواريخ المتعددة، فإنها تبقى الحرب الأستاذ، والمعركة الفصل، التي يظهر من تحت غبارها المنتصرون، ويرفع الراية على أنقاضها المنهزمون.
أما قادة أركان جيش الكيان الصهيوني الذين باتوا يعتقدون أنهم لم يعودوا يواجهون جيوشاً نظامية معادية، ولا يتوقعون في المدى المنظور خلال السنوات القادمة مواجهة عسكرية مع أيٍ من النظم العربية المجاورة المصنفة تاريخياً أنها معادية لكيانهم، ويرون أن الأخطار الخارجية قد تراجعت نسبياً، ولم تعد تشكل على كيانهم خطراً كبيراً كما كانت في السنوات الماضية، بعد أن تهاوى وتفكك الجيشان العربيان السوري والعراقي، وقد كانا بالنسبة لهم مصدر خطرٍ وقلق، نظراً لإمكانياتهما وقدراتهما، فضلاً عن عقيدتهما القتالية، وتركيبتهما الأيديولوجية المعادية.
ولم تعد قيادة أركان جيش الاحتلال بحاجةٍ إلى أن تخصص عدداً من الألوية المختلفة على الجبهات العربية المصرية والأردنية، التي تربطها بهما اتفاقيات سلامٍ ملزمة، ومعاهداتٌ دولية ضامنة، الأمر الذي من شأنه أن يلغي حاجتها إلى تخصيص قطاعات نظامية من الجيش لمواجهتهما، وينفي إمكانية الحرب النظامية معهما، أو يقلل نسبياً من الأخطار المتوقعة من جانبهما.
ترى قيادة الأركان الإسرائيلية أن الحروب غير النظامية مع المجموعات العسكرية أكثر خطراً عليها، وأن إمكانية حسم المعركة معها تبقى دوماً ضئيلة، وهي ترى أنها تتمثل اليوم بقوةٍ في لبنان وقطاع غزة، وعلى الرغم من أنها شنت على المقاومة فيهما أكثر من حربٍ، إلا أنها لم تتمكن من حسم المعركة ضدهما، ذلك أنها كانت تعتمد في حروبها على سلاحي الطيران والصواريخ، وهو ما تتباهى بتفوقها فيهما، وقد استطاعت فعلاً أن تحدث بواسطتهما خراباً واسعاً وتدميراً كبيراً، ولكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها، بدليل تكرار حروبها كل سنةٍ أو أكثر، على نفس الجبهات ولذات الأسباب والأهداف، ما يعني عدم جدوى القتال بالطيران أو بالقصف الصاروخي والمدفعي البعيد المدى والشديد الأثر.
إلا أن فريقاً آخر قد تنمر وتحفز، وبدأ استعداداته لمعارك برية واجتياحاتٍ مُدنية، وهو يحلم أن يحقق نصراً عز تحقيقه على سابقيه، وتعذر إنجازه لسنواتٍ عبر العديد من الحروب، فأمر قطاعات التصنيع العسكري لديه بمراجعة عيوب دبابة الميركافا، وهي التي كانت أسطورة سلاح الدبابات، ومفخرة القتال البري عندهم، إلا أن المقاومة في غزة ولبنان قد تمكنت من استهدافها وتدميرها، وتعطيل حركتها وتدمير مدفعها، ما جعلها غير آمنةٍ للجنود، وغير قادرةٍ على السير الآمن على الأرض، فوق الأنفاق وبين البنايات.
كما أمرت قيادة أركان العدو بضرورة تصنيع عربات نقل آمنةٍ، ذات تصفيحٍ عالٍ، تحل محل العربات التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي، والتي باتت أمام سلاح المقاومة هشة وضعيفة، يسهل استهدافها وحرقها وقتل من فيها، فضلاً عن استحداث آلياتٍ ووسائل نقلٍ قادرة على اختراق جبهات العدو، والسير في الظلام والمناطق الوعرة، لتتمكن من جمع المعلومات، وتحديد الأهداف، وتوجيه مسار العمليات الحربية، ويكون لديها الجاهزية للتدخل السريع لإنقاذ المحاصرين، وسحب الجرحى والمصابين، ومنها عربات الهمر الحديثة، التي تتميز بالقوة والقدرة، ويمكن من خلالها تنفيذ المهمات الصعبة بسرعةٍ كبيرة، وبدرجةٍ عالية من الأمان.
رغم الخوف الإسرائيلي المعهود، والجبن اليهودي الموروث، إلا أن قيادة أركان العدو الحالية بدأت تفكر جدياً بضرورة الإعداد لحروبٍ بريةٍ كبيرة، واجتياحاتٍ مُدنيةٍ واسعة، تستهدف مقرات المقاومة ومستودعات أسلحتها، وتقضي على وسائل اتصالاتها وعُقد تنظيمها، رغم التحذيرات الشديدة التي يبديها عددٌ كبيرٌ من الضباط الإسرائيليين، الذين يرون أن سلبيات الحرب البرية تفوق إيجابياتها، وأن على من يتخذ قرار الاجتياح البري أن يهيئ شعبه لاستقبال أفواج القتلى ومئات الجرحى، علماً أن صور الجنائز وأصوات الأمهات الباكيات والزوجات النائحات، سيقضي على أي فرحةٍ مزيفةٍ بالنصر.
يرى هذا الفريق من الضباط الخائفين والقلقين من تداعيات الحرب البرية ونتائجها، أن المقاومة قد استعدت لها، وهي ترحب بها، وتنتظرها بفارغ الصبر، وهي على كفاءةٍ عالية، وجهوزية كبيرة، وقد أعدت للجيش الإسرائيلي كمائن ومصائد، وحفرت أنفاقاً ونصبت فخاخاً، ما سيجعل نتائج الحرب البرية كافية لاستقالة مئات الضباط ومحاكمتهم، وهي بالتأكيد ستشوه سجلاتهم، وستحرمهم من الترقي أو مواصلة العمل في السلك العسكري والأمني أو السياسي، والتجارب على ذلك كثيرة وعديدة، وأحلام المقاومة كبيرة، ولا نظنها ستخاف أو ستنتهي، فهل ستنفعهم عرباتهم، وستحميهم حصونهم، وسينجون من موتٍ هو قدرهم وإن هم منه فروا، ومن قتلٍ هم إليه خرجوا.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي