صور واقعية من الشوارع ..

بقلم: مازن صافي

صور الشوارع لازالت مكتظة بغبار الحرب، وتلك الأعمدة الخرسانية، وقطع البيوت المدمرة، ووجوه الناس الحزينة، وهؤلاء الذين لم يصدقوا بعد أنهم فقدوا أبناءهم او إخوانهم او ذويهم، وملاك الرحمة لازالت ملابسه تحمل بقع الدماء الحمراء القانية وعطر الجرحى والشهداء .. كم هي موجعة المأساة، أي جنون هذا الذي يأتي مع الموت ومع الحرب، هل الطمأنينة خرافة، يقول لي صديقي أنه أصبح يرى الدنيا كمشهد قاسٍ لا تملك إلا أن تكون فيه متفرجا حتى لو تحول المشهد الى صاروخ يصيبك، فلن تتمكن إلا أن تبقى "متفرجاً" .. وقلت له بل أرى أن الحياة أصبحت مثل قنبلة دخانية وصوتية لا تملك إلا أن تنتظر وقت حتى ينتهي صوتها وغبارها حتى تتوقع أخرى وأخرى وأخرى وأنت لا تملك إلا الانتظار، وهذا الانتظار يقتلنا ببطء لا حدود له .

صديقي الذي يسكن في أوروبا ينظر لنا من خلف نظارته السوداء، يقول لي أنه يرى مشهدا أكثر سوادا من لون عدسات نظارته الأنيقة، ويقول "قلبي موجوع عليكم" ولا يملك إلا أن يعبر لنا عن مشاعره، وكأن العاطفة سيدة الموقف.
هل أصبحنا سجناء في قفص "الحزن"، هل نضحك ام نبكي، هل نمني أنفسنا بالغيب أم نرسم خطوطا متوازية لكل الأشياء، مجرد إضاعة للوقت لا أكثر، ونتجرع الرضا لأننا لا نملك البديل، ونرتهن للفقر والبطالة والجوع والتناقضات، في أقصى التاريخ كانت حجة الصليبيين حين اجتاحوا المشرق أنهم يدافعوا عن قبر المسيح، وقتلوا مئات الآلاف، والمسيح لا قبر له، ولكن شبه لهم، وحين جاء الصهاينة الى بلادنا، كانت الحجة أنهم هاربون من نار الموت والحرق، يدافعوا عن تمسكهم بالحياة، ولكن في الحقيقة انهم أعدموا حياتنا وحولوها الى محرقة مستمرة ومذابح لا تتوقف وعدوان يحصد الآلاف ويدمر كل شيء يتصل بالحياة والإنسان، ويعتقدون أن ذلك سوف يعيد مشهد النكبة ويخرج السكان مقهورين مجبرين فزعين إلى خارج مساكنهم، ولكن شبه لهم وباقون هنا و على هذه الأرض ما يستحق الحياة، و كثير مما يقذف في وجوهها عبارة عن خرافات أو نظريات وعلينا أن نقبل ولا نرفض، أن لا نعترض.
الحقيقة أننا بحاجة إلى التقاط الكثير من أنفاسنا ولملمة جراحنا، والابتعاد عن الهلال المبين، والاقتراب أكثر من بناء الإنسان وإعادة العمران ومحاكمة المحتلين.

صور الشوارع لازالت مكتظة بالقصص المؤثرة، رجل تجاوز السبعين عاماً، يقطع الشاعر الفاصل لباوبة المستشفى بالكاد يمشي، بالكاد يتحرك، ثم يصعد طابقين ليصل الى الطبيب، المطلوب تحاليل طبية وفحص أشعة، ووصف أدوية، ويحتار الطبيب ماذا يفعل، وهذا الرجل يحتاج الى صوت مرتفع يصل لحد الصراخ ليسمع الكلام والإرشادات، ويكرر الطبيب كل جملة عدة مرات، ويتمتم "أين أبناؤك يا والدي" .. ويكرر الطبيب بصوت مرتفع " لماذا لم يأت معك أحد من أبناءك" .. ويرد الرجل السبعيني العجوز، منهم من استشهد ومنهم من هو معتقل، والآخر ترك البلد، سامحني يا ابني، غلبتك معي.
ويصمت الطبيب وتتحدث دموعه، وينادي على أحد المراسلين لكي يرافق الرجل المكلوم حتى إنتهاء معالجته .

بقلم د.مازن صافي