سنوات الظلام .. ثماني سنوات على الانقسام.!

بقلم: أكرم عطا الله

يختلف الفلسطينيون على تسمية ذلك اليوم الأسود في تاريخهم، يوم أعلنوا انتصارهم على ذاتهم على شكل هزيمة كسرت عمودهم الفقري وقصمت ظهر المجتمع الفلسطيني الذي يحاول علاج  تلك الضربة التي تحولت إلى حالة مزمنة يصعب شفاؤها، في ظل عجز وقلة وخبرة وكفاءة العاملين عليها.. ربما ذلك، وربما أيضا لالتباسات الوضع وتعقيداته التي جعلت من المصالحة ما يشبه المستحيلات الثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي.

ما الذي حدث يومها؟ كل ما يعرفه الفلسطينيون أن دمهم كان مستباحاً في الشوارع بأيديهم في صراع السلطة والذي حمل أكثر من بعد وسبب وتبرير، مع أنه لا سبب يقنع بأن يصبح القتل ضرورة وطنية، ومشكلة إذا اعتقدت الفصائل أن هناك من الناس يمكن أن يشتري تلك البضاعة باستثناء عناصرها الذين لقنتهم ضرورة أن يقتل الأخ أخاه.

ليس هناك ما هو أصعب بالنسبة للأم أن تجد أولادها يصفي واحدٌ الآخر على تركةٍ خلّفها والدهم، ظني أن أي أم كانت تتمنى الموت حقيقة قبل أن ترى هذا الكابوس الأسود، هذه حالة فلسطين التي عفرت رأسها بالتراب وبالدم وبالمستوطنات وبالدموع وهي تشهد تساقط من أنجبتهم بأيدي من أنجبتهم، إنه اليوم الأكثر سوادا في الذاكرة الوطنية حين تعود ثماني سنوات للوراء تتذكر الحواجز المقامة وأبطال القناصة وهم يعتلون أسطح العمارات مخلفين وراء بطولاتهم الأرامل واليتامى كأن لم يكن يكفي تكلفة الإسرائيلي من الدم.

ما زال الجدل قائماً حول تسمية يوم الكارثة بلا بطولة يوم انقسم الوطن وما زال وما زلنا غرقى بمعالجة ما حدث، نستظل بالعجز والخيبة دون أن تتوقف الفصائل حتى اللحظة لتدقق أو تحقق فيما حصل وإذا ما كانت أيادٍ خارجية عبثت بنا ودفعتنا إلى هاوية الجنون .. هناك من الشواهد ما يكفي لفتح تحقيق وما يكفي للوقوف على حقيقة ما حدث والدور الخارجي والعبث الخارجي والعامل الإسرائيلي، لكننا كما يبدو نخشى الحقيقة ونخشى أكثر مواجهة واقع يصفعنا كلنا، والخشية أكثر إذا ما اكتشفنا أننا لم نكن أكثر من دمى متوحشة في مسرحية السياسة التي ربما أرادها غيرنا .. ربما ذلك.

انقلاب أم انقسام؟ حسم أم انقلاب؟ لقد ترك الفلسطينيون كل شيء محاولين إيجاد تسمية تليق بالخيبة، وكل طرف يتمسك بتسمية تحفف من وطأة جريمته وتشكل إدانة للأخ العدو الآخر، فما حدث هو أن حركة حماس حسمت الخلاف بينها وبين السلطة بالانقلاب المسلح، ما أدى إلى انقسام الوطن، فالمصطلحات الثلاثة تكمل بعضها، الحسم هو الفعل والانقلاب هو الأداة والنتيجة هي انقسام، هكذا تتكامل المأساة وكلها تعكس عجزنا وفشلنا وعارنا الذي لم نمسحه لثماني سنوات وثمانين محاولة عاجزة مثلنا.

كيف لفلسطيني أن يقتل فلسطينياً تنتظره زوجته وأطفاله ليكملوا رحلة العمر معاً؟ هذا إذا تركهم الإسرائيلي، كيف لفلسطيني أن يطلق النار على قدم فلسطيني بدم بارد ويلقي في وجوهنا مجموعات من العجزة والمشلولين والمبتورين، فنحن بالكاد قادرون على معالجة ما خلفه الإسرائيلي منذ عقود، فأي عبث هذا وأي عقل هذا الذي ذهب إلى هذا المدى؟ وهنا يتساوى الحزن بعيداً عن الانتماء، فأنت أمامك أطفال يكبرون بلا أب تركهم اليتم بلا ابتسامات ولا براءة، يرافقهم الألم في رحلة طويلة، لا أعرف ماذا كانت الإجابة حين سأل كل منهم: أين أبي؟

ثماني سنوات ونحن نحاول ترميم ما انكسر فينا من جرح غائر أحدثته نيران صديقة بلا رحمة،  ثماني سنوات ونحن نحاول الاقتراب، أن نتجاوز الواقع نحو الأمل، أن نطوي صفحة هي الأكثر سواداً في تاريخنا بعد النكبة، أن نعيد بناء نظامنا، أن نتفق على الحد الأدنى، لكن محاولاتنا كانت كسيحة تشبه ما خلفه الانقسام من ضحايا، هل لأننا الأقل شأناً أو تعوزنا التجربة والوعي للشراكة؟ أم لأن محاولاتنا ما زالت تتحرك بوعي قديم حيث التربص سيد الموقف ونحن عبيد وعينا القاصر وتربيتنا الشاذة حد الإقصاء؟.

منذ ثماني سنوات أفاق الناس على حالة هزلية أنهت صراعاً على سلطة تحت الاحتلال وبلا صلاحيات وبكلفة فاقت كثيراً ما استثمر من دم من أجلها. فالصراع على السلطة كان مدعاة للدهشة وبقاء السلطة تحت الاحتلال مدعاة لدهشة أخرى، ووجود «حماس» ببرنامجها المعارض للسلطة داخل السلطة دهشة من نوع آخر، وهكذا اكتملت كل الالتباسات التي انتهت بتشويه صورتنا أمام العالم سواء الأعداء الذين عاشوا نشوة جنوننا أم الأصدقاء الذين صدموا بذلك الجنون وطريقتنا في التعبير عن خلافاتنا بالقتل.

ثماني سنوات وكل طرف ينتظر استسلام الآخر مستغلاً تطورات الإقليم ومستمداً قوته منها في لعبة عابثة استهلكت سنوات عمر الفلسطيني وهو ينتظر كل طرف يريد من الآخر أن يسبح على بطنه، لكننا نحن من سبح على بطننا وعلى وجوهنا من شدة الألم، نحن ننتظر حواراتهم المترفة دون نتائج سوى أحلام تبخرت لأنها استهلكت كثيراً، ننتظر القوة من الخارج لتعيننا على الداخل.. سقط الرئيس مبارك لتمتلئ سماء غزة بالرصاص، إنها نشوة إضعاف الآخر بشكل ساذج، ثم سقط الرئيس مرسي ليكون الفرح على الجانب الآخر، وسقطت تونس ثم عادت تونس ولم تسقط سورية.. تغيرت قطر وغادر أميرها لعل الجديد يحمل ما هو جديد، ثم يموت ملك السعودية، ثم خسر أردوغان الأغلبية، ثم ..وثم ..وثم ..في مشهد يعكس حقيقة سوء نوايانا ولا يضع حداً لقصتنا الحزينة بل نعيش الانتظار الذي لا نهاية له.

لم ننتبه أن سنوات عمرنا تآكلت وانحنى الظهر، أعدنا أنفسنا إلى ما دون الصفر بمغامرتنا غير البريئة، فما فعلناه كان جريمة لن يغفرها التاريخ، والأخطر أننا تسببنا بأنفسنا بحصار غزة ومآسيها التي أُنتجت، والأهم أننا نسينا ذلك وأشغلنا أنفسنا بالمهمة المقدسة مهمة رفع الحصار ولم نفلح، ودفعنا من أجل ذلك ثمناً باهظاً وحروبا ودمارا وجوعا وفقرا ودما كانت كلها زائدة، فقد افتعلنا الأزمة وصدقنا أن علينا أن نبحث عن حل.

والمسألة الثانية أن ما فعلناه تسبب بتركيز الأنظار والإعلام والكاميرات على غزة ومآسيها وحروبها سحبت الاهتمام بعيداً عن الضفة والقدس، وأثرنا كل هذا الغبار حول غزة، وكانت إسرائيل تختبئ خلفه لتسرق الضفة وتهود القدس. فقد حجب الغبار الرؤية وبقينا نحن بحصارنا وحواراتنا والمعابر والكهرباء والطلاب والمرضى والشموع والدموع، وكل هذا غرقنا فيه فيما كانت المأساة الحقيقية على الجانب الآخر من الوطن، وما زلنا غارقين، فأي سذاجة تلك التي يمكن أن يوثق بقدرتها على إدارة صراع مع عدو مدجج الدهاء.

نحن بحاجة إلى مراجعات طويلة ومحاسبات أكثر.. بحاجة إلى إعادة قراءة تاريخنا ..إلى وقفة مع الذات ومحاكمة الضمير، إلى إعادة كتابة عقدنا الاجتماعي من جديد بعيداً عن العنف والدم والدموع، علّنا ننقذ سفينة آخذة بالغرق من كثرة الثقوب التي أحدثها عبثُنا بواقعنا ومستقبلنا...!!

بقلم/ أكرم عطا الله