ثماني سنوات، واليوم يكون الانقسام قد دخل عامه التاسع، دفع خلالها الشعب الفلسطيني وقضيته، وحقوقه، أثماناً باهظة، وحققت ارباحاً صافية للاحتلال، الذي اعتبر الانقسام ثالث أهم إنجاز حققته الحركة الصهيونية بقيام دولة إسرائيل كأول الإنجازات، وأخطرها.
المفارقة أن الكل يعترف بمدى خطورة الانقسام، واستمراره على القضية وعلى الشعب الفلسطيني لكن لا أحد يعترف بمسؤوليته عن وقوع تلك الكارثة، أو بمسؤوليته عن استمرارها كل هذا الوقت أو يكشف عن الأسباب والدوافع الحقيقية لاستمراره.
خلال السنوات الثماني شنت إسرائيل ثلاث حروب مجرمة على قطاع غزة، عدا عمليات القصف التي لا تحتسب على حروب دفع خلالها الشعب الفلسطيني أكثر من ثلاثين ألفاً بين شهداء وجرحى عدا الدمار الشامل الذي حل بسكان القطاع، بيوتاً ومؤسسات وبنى تحتية، ومزارع، ومصانع، والأهم تقويض عوامل الصمود حتى بات نصف سكان القطاع يرغبون في الهجرة وترك الأرض التي نصارع احتلالاً بغيضاً من أجل تحريرها.
وخلال السنوات الثماني، ضاعفت إسرائيل من مخططاتها الاستيطانية وتهويد القدس، وطرد أهلها الفلسطينيين منها، وقوّضت معظم إن لم يكن كل الحقوق التي يسعى الشعب وحركته الوطنية إلى تحقيقها. خلال الفترة المنصرمة، جرت مراكمة المزيد من عوامل الانقسام، الذي يتخذ طابعاً مؤسسياً، حتى بات من الصعب، تخيل إمكانية استعادة وحدة المؤسسات الوطنية على أسس مهنية ومعايير وطنية عامة.
خاض الطرفان حوارات مضنية، وبوساطات عربية متعددة الأسماء وأنتجا عدداً من الاتفاقيات، التي ما كانت لتفعل شيئاً الا مراكمة المزيد من خيبات الأمل، والمزيد من تعميق الانقسام، وما كان لها أن تنتج في أحسن الأحوال سوى مؤسسة وطنية ذات أبعاد فصائلية لا تصلح معها أية مؤسسة.
تراجعت مكانة القضية الفلسطينية لدى الأمة العربية التي تعاني دولها ومجتمعاتها من صراعات دموية، ترسم مستقبلاً شاحباً تهيمن عليه المصالح الاستعمارية، وساهم الانقسام في تهميش الوضع الفلسطيني، ذلك أنه قدم المبرر والذريعة للشقيق والصديق، لكي يتخلى عن مسؤولياته والتزاماته، وأن يلقي باللائمة على الفلسطينيين المنقسمين على أنفسهم.
تراجعت فرص تحقيق المشروع الوطني، وحظي الاحتلال بفرصة ذهبية، لفرض مخططاته، التي لا تتجاوز حدود السماح بإقامة دولة غزة، والتكرم على الفلسطينيين بإتاحة المجال لبناء أو استكمال بناء مؤسساتها، حتى بات من الصعب على الفلسطينيين تجاوز الوقائع التي قام ويرغب في تكريسها الاحتلال.
لقد تعرضت العلاقات الفلسطينية إلى عملية متأرجحة صعوداً وهبوطاً مع تأرجح المتغيرات الإقليمية والعربية، وتبدل الرهانات التي كانت تخدم هذا الطرف أو ذاك لبعض الوقت ثم سرعان ما أن يغير خطابه مؤقتاً في انتظار رهانات جديدة.
كل الرهانات خاسرة، طالما أنها تبتعد عن الرهان الأساسي وهو وحدة الشعب ووحدة القضية، ووحدة المؤسسة والقرار، لكن القبائلية الفصائلية ظلت تمعن في أنانيتها، وفي تقديم مصالحها وبرامجها على حساب المصالح الوطنية.
ما وقع حتى الآن خلال السنوات الثماني يشكل امتحانات للوطنية، التي يدعي كل طرف أنه الأشد التزاماً بها، متجاهلين أن مخرجات وتداعيات الانقسام المستمر، قد كشفت زيف هذه الادعاءات. من يدعي أنه أب الوطنية وأمها، لا يلقي بكل هذه الأعباء الثقيلة على الشعب، ولا يبحث عن مصالح أعضائه ومؤيديه، في جيوب الناس الفقراء، الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة والصمود. وتحولوا بفعل فاعلين إلى متسولين يبحثون عن الكوبونة بعد أن فقدوا الأمل في البحث عن عمل كريم.
سكان القطاع مطحونون، بالحصار، والفقر حتى الجوع، وبالمرض والإعاقات وعليهم أن يدفعوا فوق ما يدفعونه بسبب العدوانات الإسرائيلية الوحشية، عليهم أن يدفعوا ثمن استمرار الانقسام وأن يدفعوا ثمن إغلاق معبر رفح، لأسباب فصائلية.
إن من يستهتر بحياة الناس وحقوقهم، ويكتفي بالقتال من خلال فريقه الخاص، لا يمكن أن يحقق إنجازاً للقضية والشعب، لأنه سيظل يبحث عن إنجازات لنفسه ولمريديه. إن من يساهم في تفريغ الأرض من أصحابها، إنما يقدم خدمة جليلة للاحتلال الذي يسعى بكل الوسائل لتفريغ كل الأرض من أهلها وتحقيق أطماعه التوراتية.
إذا كان هذا هو دأب الفصيل أي فصيل، ومهما كانت الخطيئة فإن الفصائل والفصائلية تستحيل إلى عبء على الشعب وعلى القضية. الانقسام مستمر، والحال تتدهور أكثر فأكثر، ولا افق قريبا لتجاوز هذا الانقسام، لأن استمراره سيمكن إسرائيل من فرض مخططاتها على الكل، رغبت الفصائل أو رفضت.
في هذه الحالة، ليس المطلوب إعلان رفض المخططات الإسرائيلية، لأن المطلوب هو توفير وسائل مقاومتها وإفشالها، وهذه لا تتحقق إلا بالوحدة الغائبة، التي يستحق تحقيقها تقديم التنازلات ولو من باب الشعور بالمسؤولية الوطنية، التي إن غابت سيحضر بدلاً عنها الكثير من الكوارث والنكبات.
بقلم/ طلال عوكل