في مثل هذا اليوم.. قبل 48 عاما

بقلم: علي الصالح

يوم في الذاكرة… يوم غادرت فلسطين مواطنا لأعود اليها بعد 27 عاما زائرا، وبين البينين عشت نازحا، كان هذا قبل 48 عاما بالتمام والكمال.
في صباح ذاك اليوم، العشرون من يونيو 1967 وجدت نفسي مع5 من افراد أسرتي والقليل القليل من متاعنا الشخصي، محشورين في سيارة اجرة لا تتسع أصلا لهذا العدد من الركاب، استعدادا لرحيل لم نكن ندري إن كان سيطول أم سيقصر.
لم يكن قد مضى سوى أحد عشر يوما على ما يسمى مجازا حرب الايام الستة، أو ما اتفق على تسميته عربيا بنكسة حزيران، لأن انظمتنا في حينه لم يسمح لها كبرياؤها بالاعتراف بالهزيمة، فأصرت على تسميتها بنكسة بسيطة على طريق التحرير، رغم أن مساحة الارض التي فقدت في هذه النكسة عشرات أضعاف مساحة ما كانت الأنظمة تعد بتحريره من براثن الكيان الصهيوني.
في تلك الحرب.. فُقد ما تبقى من فلسطين، الضفة الغربية التي كانت تحت حكم النظام الأردني، وقطاع غزة الذي كان تحت الوصاية المصرية… ويا ليت لو بقيت الخسارة محصورة بفلسطين من النهر (الاْردن) إلى البحر (المتوسط) لكنا بألف خير.. بل طالت شبه جزيرة سيناء او الاراضي المصرية من رفح وحتى قناة السويس ومرتفعات الجولان السورية.
في صبيحة ذاك اليوم غير العادي بكل معنى الكلمة، الذي كان نقطة تحول حقيقي في حياتي.. فتحت باب المنزل للمرة الاخيرة حاملا بعضا من المتاع، بل كل المتاع (حقيبة ملابسي فقط) الذي سيرافقنا في رحلة اللاعودة الى خارج وطننا.. سيارة الأجرة كانت تنتظر… أعداد كبيرة من الأقارب والأحبة والجيران التموا للحظة الوداع.. أعداد لم أشهدها من قبل الا في الاعراس او العزاء.. وبالفعل كان ذاك اليوم يوم عزاء بامتياز وهل هناك حزن أصعب من حزن اقتلاع الانسان من بيئته ومن ذكرياته.. من محيطه.. من بلدته ومن وطنه. كان جمع المودعين مهيب او هكذا بدا لي.. في ذاك الصباح الذي كان غير عادي.. كان أشد حرارة من المعتاد او هكذا تهيأ لي.. بكاء فنحيب فعويل وعناق تبلله الدموع. وداع ربما لن يكون هناك لقاء بعده وفعلا لم يكن.
انطلقت بنا السيارة إلى عالم المجهول والأيادي من ورائنا لا تزال مرفوعة عاليا مودعة والدعوات تلاحقنا متمنية لنا السلامة والعودة القريبة. وشيئا فشيئا غابت معالم وجوه المودعين وأيديهم وغطى صوت محرك السيارة على أصواتهم الى ان اختفت تماما.
اتجهت السيارة شمالا في طريقها إلى جنين شمال شرق الضفة الغربية، قبل ان تعرج بنا شرقا نحو جسر اللنبي في منطقة الاغور، الذي حمل اسمين اخرين لاحقا احدهما أردني وهو جسر الملك حسين (العاهل الأردني الراحل) والثاني فلسطيني وهو معبر الكرامة.
خلال هذه الرحلة التي استغرقت ساعات طويلة بينما في الظروف الطبيعية لا تستغرق أكثر من ساعتين على أقصى تقدير. كان سائق السيارة يمر بقرى في شمال الضفة، لم أسمع بأسمائها من قبل، في محاولة لتجنب دوريات جيش الاحتلال الجديد.
لم يعترض طريقنا جنود الاحتلال فلم تكن الحواجز قد نصبت بعد كما هو حال اليوم، وربما كانوا يراقبوننا من على بعد يتمنون لو يغمضون عيونهم ويفتحونها ولا يَرَوْن فلسطينيا واحدا في هذا البلد. ولكن ما شاهدناه على جانبي الطريق كان أشد وطأة من الحواجز.. فزاد من الهم والألم والخوف في النفوس.. سيارات عسكرية ودبابات محترقة، ربما احترق جنودها في داخلها.. دبابات وعربات تحمل اسم الجيش العراقي الذي هب للمشاركة في حرب تحرير فلسطين، لكن طيران العدو لم يمهله ليصل الى مواقعه على الخطوط الأمامية، او التي كانت قبل ايام أمامية، فأغار عليه ونجح في تدميره… ولربما تغير مجرى الحرب لو كان الجيش العراقي شارك في القتال ونجح في ما فشلت فيه الجيوش العربية الثلاثة الاخرى، التي انهارت بالكامل في اليومين الاولين للحرب… هذا بالطبع اذا افترضنا جدلا انه كانت هناك حرب حقيقية.
كانت رحلة شاقة ومؤلمة قبل بدئها وخلال القيام بها وحتى بعد العبور الى الاْردن.. كيف لا وقد خلفنا وراءنا ذكريات وتاريخا وجذورا وجيرانا واقرباء وأصدقاء وارضا بزيتونها وتينها وعنبها ولوزها.. لم يدر في خلد أي منا ان هذه الرحلة ستكون الاولى والاخيرة ولن نعود الى قريتنا على الأقل كأسرة واحدة، بل فرادى كل بطريقته. رحلة كان وقعها صاعقا ومذاقها مرا علقما والخوف من المجهول سيد موقفها.
الحدث كان أكبر من أن يستوعبه أي عقل، فما بالك بعقل شاب فتي تجاوز الـ16 ربيعا من عمره فقط بأشهر قليلة. شاب لم يغادر قريته يوما، ناهيك عن وطنه… كيف يمكن لهذا الشاب ان يستوعب ما يدور حوله وهو يرى نفسه وأسرته يفصلان عن واقعهما وبيئتهما. شاب كما غيره من ملايين العرب كان على قناعة رسختها في الاذهان اْبواق الأنظمة العربية، بان تحرير فلسطين ليس الا قاب قوسين او أدنى، وأننا قريبا سندق أبواب تل أبيب.. فيجد نفسه يعيش نكبة جديدة اختاروا لهم اسما ملطفا «نكسة»..
خلال الرحلة تعطلت لغة الكلام.. صمت شديد قاتل لا يعكره سوى شهقات بكاء لم يتوقف منذ لحظة الفراق وقبلها بأيام.. اي منذ اللحظة التي وصلتنا فيها التعليمات بالاستعداد للرحيل..
كنا في السيارة انا ووالدتي، رحمها الله، وشقيقتي الصغيرة، رحمها الله أيضا، وشقيقي الصغير أطال الله في عمره.. وشقيقتي الكبرى (رحمها الله هي الاخرى) وزوجة شقيقي الاكبر، رحمه الله وطفلته ابنة الربيعين، وكان ثلاثتهم قد عادوا للتو من السعودية لقضاء إجازة الصيف كما اعتادوا في كل سنة، كغيرهم المئات من المغتربين الذين كانوا تعمر بهم البلدة خلال شهور الصيف ويبعثون الحياة فيها..
لم يتوقع شقيقي عندما أرسل زوجته وطفلته ليلحق بهما بعد أسابيع، ان تؤول الأمور الى ما آلت اليه.. فقد كان وهو القومي الناصري كملايين العرب مخدوعا ومقتنعا بأن اسرائيل لن تصمد امام جيوشنا الجرارة وطيراننا وصواريخنا، ومنها القاهر والظافر، وأنها ستنهار في اللحظة التي ستبدأ فيها الحرب.. من كان يظن ان جيوش مصر وسوريا والأردن لن تصمد اكثر من ساعات… لم أشهد حربا كالحروب التي نسمع عنها، باستثناء قصف اسرائيلي متقطع في اليوم الاول،على البلدة التي كانت خالية من اي حاميات دفاعية.. يشتد احيانا ويخف احيانا.. وفي اليوم الثاني للحرب انتهى كل شيء واحتلت البلدة وأصبحنا شعبا تحت الاحتلال ولأول مرة اجد نفسي وجها لوجه مع جنود الاحتلال.
لم يكن رحيلنا بإرادة منا، فقد وصلتنا التعليمات عبر الحدود من الوالد، ولم يكن قد مضى على انتهاء الحرب واحتلال الضفة الغربية وانتهاء الحرب رسميا سوى بضعة أيام فقط. وكانت مآسي نكبة 1948 وتشتت أفراد الأسرة الواحدة بين بلدان اللجوء المختلفة، لا تزال عالقة بالاذهان وهي بالتأكيد التي دفعت الوالد الى اتخاذ مثل هذا القرار المصيري، فلم يكن يريد أن يتكرر مع أسرته، ما حدث لآلاف الأسر الفلسطينية خلال نكبة 48. واستند في قراره إلى قناعة بأن سلطات الاحتلال الجديد ستعمل كما فعلت في السابق على إغلاق الحدود ومنع الدخول الى الضفة والخروج منها.
اعترضت أمي على هذا القرار الذي وصلها عبر المتسللين الى الضفة بداية، بل ورفضت المثول للأوامر القادمة اليها عبر الحدود، وظلت تقاوم مفضلة البقاء في بيتها وأرضها، على الرحيل والتشتت. لكن المقاومة سرعان مع انهارت عندما وصلتها الرسالة واضحة لا لَبْس فيها «ابعثي الأولاد واذا أردت البقاء فأنت حرة» ملمحا بامكانية الزواج من اخرى، إن هي أصرت على العناد واختارت البقاء.
وبفرمان الوالد لحقنا بركب اللاجئين الفلسطينيين في المهاجر المختلفة، مع اختلاف التسمية فقط. فمن سبقنا الى مخيمات اللجوء بعد «نكبة» عام 1948 «حظي» بلقب «مهاجر»، اما من لحق بهم بعد نكسة 1967 فقد حمل لقب «نازح».
وكان والدي الكادح أبدا، قد فارق أسرته المكونة من تسعة اولاد (6 أناث و3 ذكور) الى الكويت في منتصف خمسينيات القرن الماضي، بحثا عن لقمة عيش وتوفير المتطلبات الحياتية البسيطة جدا، أسوة بالمئات من أبناء بلدته وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين تدفقوا على الكويت بعدما ضاقت بهم سبل العيش في وطنهم. وعاش حياته البسيطة كلها في الكويت عاملا كادحا نجح، براتبه الزهيد، في ان يحقق حلمه في تعليم أولاده، بنات وبنين، جميعا بعضهم حتى الثانوية العامة واخرون حتى الجامعة. ظل طوال هذه السنوات محروما من أسرته والعكس صحيح، باستثناء الاجازات القصيرة التي كان يسمح بها عمله. ولم يرد ان يحرم من ذلك الى الأبد.
كان الفلسطينيون في خمسينيات القرن تدفعهم الحاجة الى المخاطرة بحياتهم بالسفر الى الكويت. ولأن السفر كان برا وتهريبا فمنهم من كان يصل ومنهم من كان يلقى حتفه في الطريق، ولا أدل على ذلك من رواية الشهيد غسان كنفاني «رجال تحت الشمس» التي لقي عدد من الفلسطينيين حتفهم من شدة الحرارة وهم مختبئون في صهريج ماء فارغ في انتظار انتهاء سائق الصهريج من معاملات دخول الاراضي الكويتية من العراق. ويظل المسافر بالنسبة لاهله مفقودا الى ان تصل منه اي علامة تثبت انه لا يزال على قيد الحياة.. عندئذ تقام الافراح وتنطلق الزغاريد وتوزع الحلوى..
ثمانية وأربعون عاما بالتمام والكمال، مضت على ذاك اليوم المشؤوم من شهر يونيو الذي غير مجرى حياتنا. ولو ان والدي رحمه الله تحلى بالصبر وهذا سهل القول الان صعب التنفيذ في حينها، خاصة ان نكبة 1948، كانت لا تزال عالقة في الاذهان، لما تركنا وراءنا ذكريات وتاريخا ووطنا وارضا. ولربما تمكن الوالد من العودة ولم شمل الاسرة حوله ولربما حقق حلمه الأزلي في بناء بيت على ارضه التي لم يرثها عن احد بل دفع ثمنها من جده وكده وهو الفلاح البسيط والبسيط جدا ورواها ورعاها من عرق جبينه.. بيت تجتمع تحت سقفه أسرته التي حرمته الغربة من العيش معها ووسطها لسنوات طوال. ولربما أخذ بالمثل القائل بالمال ولا بالعيال. فعليك الف رحمة ونور أيها الأب المناضل المكافح الكادح.
٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

علي صالح