رمضانيات عربية

بقلم: أسامة نجاتي سدر

الصيام نية خالصة، وقلوب نابضة، وامتناع لعطاء، وحرمان لرحمة، وضعف لصحة، وعناء لتكريم، وأيام بالدهر، اختص الله به المؤمنين من كل الديانات السماوية ، وتمسك به المسلمون بقوة، أعد الله المؤمنين خمسة عشر عاما في مكة والمدينة حتى يكونوا أهلا له، وجعل لهم رسول الله مثالا تسع أعوام حتى يملأ قلوبهم وعقولهم بفضله ومكانته، وخص للناس شهرا فيه الخير والإحسان، ونزول القرآن، وكتب فيه النصر على الأعداء وقهر الشيطان، تنزل الملائكة والروح فيه سلام هي حتى فجرٍ وأذان، يبدأه الصائم بسحور باركه الرحمن، وصلاة هي الإعلان، وبر وصدقات وخير بلا حسبان، وصبر على الجوع والحرمان، وما أجمل أن تتعلق النفوس بالأذان وهي تدعو الخالق المنان، وتعجّل الفطر بهدي النبي العدنان، ليصلي الفرض والسنة بامتنان، وينتهي بقيام وركوع وقرآن.
وضاعف الأجر فيه فللسنة أجر الفرض، وللفرض يضاعف ما يشاء، وجعل أوله رحمة ورحمته وسعت كل شيء، وأوسطه مغفرة ومغفرته رجاء كل مذنب خاطئ، وآخره يا أملي !!! عتق من النار، والعتق رباه أملي وأمل كل مخلوق خلقته أو ستخلقه، إذا أخلص العبد صيامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإن اجتهد في قيامه إيمانا واحتسابا تجاوز عن ما تقدم وتأخر من ذنبه، وإن أعقبه العبد ستا من شوال كان كصيام الدهر، فكأنما هو من الله هدية للعباد، وراحة للفؤاد.
ولأن رمضان نفحة من نفحات الله تغشى الأمة بأسرها، يتعطر بها كل شعب بنكهة خاصة به، ويشع أثره في وجوه الناس بلون مختلف ترى فيه التقوى والورع والاحتشام، وكلٌّ يحاول أن ينهل من بركاته ونعم الله فيه، ويتنافس الناس فيه بالطاعات ويتبارون بالمكارم، والرحم المعلقة بعرش الرحمن تسجد لربها شكرا فلا عاق لوالديه ولا قاطع رحم ولا مانع حق لمستحق، والأسواق ملأى بكل الطيبات من الطعام والشراب ومظاهر العبادة من ملابس ونثريات،لا عاريا فيها ولا مثير للأنفس، وألعاب تعين الطفل على الصيام والطاعات لا بدعة فيها ولا تلفت قارئا عن قراءته ولا مصليا عن صلاته، ويتناثر في هوائها التسبيح والتهليل والتكبير وعبارات التهنئة والمباركة ودعاء خالص بأن يتقبل الشهر ولا يحرمنا الأجر، والمساجد خاشعة من القراء والحفاظ والركع السجود آناء الليل وأطراف النهار، تزينها مجالس العلم والذكر والتوحيد والصلاة على المصطفى، وهاهو المسكين ومن يحسبهم الناس أغنياء من التعفف انقضى عنهم الضيق بصدقات الأغنياء المعلنة والمخفية، وبات رمضانهم عيدا، والعيد من بعده أعظم وأكرم.
مهلاً ... لست أصف رمضان عصر النبوة والتابعين، هذه صورة أفلتت من أعماق عقلي ووجداني لتقع من بين أصابعي على الورق، ليست من وحي الخيال ولا من المحال بل صورة في أعماق كل إنسان يتمنى أن يحياها كل عام، بل يعمل جاهدا أن يجسدها بالحكمة والموعظة الحسنة، ويقاوم في سبيلها الكثير من جشع أرباب المال والإعلام والضلال، وهي إذ تصطدم بواقع مختلف تبقى أمنية شرعية قابلة للتحقق في أي زمان ومكان.
يأتي رمضان بعادات تكاد تكون تأشيرة لدخوله تعبر عن البهجة والفرح به ضيفا كريما مثل الفانوس والأهلة وحبال الزينة وغيرها، وإن لم يكن اعتراض من الشرع عليها إلا أنها تكلف الكثير خاصة إذا أصبحت وسيلة للتفاخر بين الناس، ويعز علينا أن نقر بأننا لا نصنعها في بلادنا بل تأتينا من الصين بالعملة الصعبة وهي على التلف والكسر لينة سهلة، ونحضِّر قبل رمضان الكثير من المأكولات والمشروبات والحلويات والعصائر وكأن الأسواق تغلق في رمضان ويحظر التجوال على الناس أو أننا ننوي صيام نهار رمضان ونحن في نوم عميق وكأنما انضم التجوال والعمل للمفطرات، مما يدفع التجار لرفع الأسعار على المقتدر ومن لا يستطيع إلا قوت يومه، ثم ننسى أن تتضمن قائمة المشتريات المصحف والمسبحة والسواك والحجاب وأطقم الصلاة إلا من رحم ربي.
يشتد في الشهر الفضيل بر الأصابع بلوحات المفاتيح وشاشات اللمس فلا تكاد تفارقهم، ويمر النهار بأكمله على مائدة لحوم الناس وأعراضهم، أو على تحليل منابر الشيطان من المسلسلات والبرامج الماجنة وإطلالات الممثلين والممثلات الخليعة، ولربما عرضت مسلسلات وصفت بالدينية لتمرر للنفوس الضعيفة أفكارا تهدم الدين بالتشويش على النصوص أو الطعن برموز يحترمها الناس، أو تقطع اتصاله بحياة الناس ومستقبلهم بتشويه صورة الملتزم وتحجيم دوره في الحياة، ويترك المصحف وكتب العلم والسنة في أغلفة الغبار وخزائن الإهمال إلا من رحم ربي وأعانه.
تضع الحكومات برنامجا مختصرا لدوام جميع الوزارات والهيئات والأجهزة وتكثف عمل الشرطة، فيشتد دورها في فض النزاع بين الناس في الأسواق وبين الجيران وربما الإخوان في البيت الواحد، والحجة أن المعتدي صائم مزاجه لا يحتمل، وكأنما وجب على كل خلق الله تكريم حضرته لقيامه بفرضٍ لا ينفع أحدا إلا شخصهُ الكريم إذا لقي الله، بل تجد البعض، والعياذ بالله، يعاقب المجتمع بالإفطار في نهار رمضان أو التلفظ بما يخرج عن الملة والدين، وتعجل الناس الفطر إلا مناوبوا أقسام الإسعاف الذين يشتد عملهم قبل الإفطار بدقائق، لأن التعجيل بالإفطار أهم من أرواح الناس ودمائهم في نظر البعض إلا من رحم ربي وحماه.
رمضان شهر الله والصيام يجزي به الله بحكمته وعلمه، يوحد الأمة في طاعة الله فيهيئ مناخا يشحذ عزيمة أهل الطاعة وينبه العصاة وقد يذيقهم لذة القرب من الله وطاعته، ويمرن الأنفس على الصبر لتكون على استعداد لأي ظرف، ويدخل الغني حياة الفقراء بعجزها وجوعها وأملها بالفرج القريب، ويضاعف الحسنات حتى لا يذهب أهل الدثور بالأجور، ويكرم الصائم بالريان بابا يدخله والفرحة الثانية في قلبه وعينيه، والصائم له من الله عهد إذا صبر واعتصم بطاعته فقال (إني صائم)، يحفظ صومه عن قول الزور والعمل به، كما يحيط الأب أبناءه من الأغراب والمتربصين، ويزين صومه بالطاعات من الفرائض والسنن والخير والتجاوز عن الزلل وإصلاح ذات البين ليسلمه لله ككعكة العيد تزينها الطيبات من كل نوع، خاب وخسر من لم يجعله حبل نجاته من النار ودخوله الجنة مع الطيبين الأطهار.

كل عام وأنتم بخير .....كل عام وأنتم إلى الله أقرب