مهما قيل عن نزاهة القضاء، هنا أو هناك، في هذا البلد أو ذاك، ومهما تكن طبيعة النظام السياسي، لا يبدو أن مسيرة وسرديات الأنظمة السياسية تشهد لخلو أو نفي التدخلات السياسية في عمل القضاء، بهذه الدرجة أو تلك، بهذا المستوى أو ذاك من التدخلات. ولكن في كل الحالات، ولئن كان هناك من جور وغبن بحق الناس، ارتكبها قضاة لم يحافظوا على قسمهم وتعهدهم بالقيام بمهماتهم بنزاهة مطلقة، كان هناك قضاة لم يستطيعوا ارتكاب جريمة الصمت على جرائم ارتكبها زملاء لهم، فباحوا بالسر واعترضوا، وإن لم ينالوا ما هدفوا إليه من إحقاق للحق، فقد رفعوا أصواتهم عالياً ليبينوا مكامن الخلل في بعض الأحكام القضائية، وهذا ما يحصل في كل بلدان العالم.
أما في ما يتعلق بما يجري في إسرائيل، فلا يبدو أن هناك ما يختلف، فبعض القضاة لا يناسبه الصمت، حتى وهو يدرك أنه يعيش في "دولة" احتلال استيطاني، يحكمها يمين عنصري، لا ترعوي مؤسساتها القضائية عن ارتكاب "المجازر القضائية" بحق أصحاب الأرض الأصليين، وصولاً للدفاع عن "أبارتهايد" عنصري تمييزي فاشي، حتى ضد علمانيي الحركة الصهيونية والعلمانيين من اليهود. وها هو القاضي أهارون باراك الذي شغل منصب رئيس المحكمة العليا، والذي تقاعد منذ تسع سنوات، يعرب عن قلقه العميق على ما سماه "النظام الديموقراطي" في إسرائيل، وذلك في ظل الحديث عن المس بصلاحيات تلك المحكمة، مستذكراً ألمانيا النازية للتدليل على قلقه.
يجيء ذلك في ظل مساعي حكم اليمين في إسرائيل، الهادف إلى إضعاف قوة المحكمة العليا، رغم أنها محكمة غير منصفة في مجال حقوق الإنسان، وكانت صادقت مراراً على قرارات سلطات الاحتلال. وأعلنت وزيرة القضاء الإسرائيلية الجديدة، أييليت شاكيد، عن أنها ستعمل خلال ولايتها في هذا الاتجاه، ومن بين أجنداتها منع المحكمة العليا من إلغاء قوانين عنصرية، ومعادية للديموقراطية يبادر إليها النواب.
واليوم، يبقى على أجندة اليمين القومي المتطرف، وكما كان من قبل، قانون "يهودية إسرائيل"، وهو من أشد القوانين عنصرية، وقد أعدته منظمات يمينية فاشية، وجرت محاولة لدسه في جدول أعمال الكنيست في الدورة البرلمانية السابقة، من خلال عدد من النواب، وفي مقدمتهم النائب من حزب "كاديما" آفي ديختر، إلا أن عنصرية القانون اضطرت المستشار القضائي للحكومة للاعتراض عليه، وتجميده، وهو قابل لأن يُطرح اليوم أو غداً من جديد، من خلال نواب اليمين والمستوطنين، ومن بينهم نواب الليكود، مع تعديلات أشد عنصرية، فيما يتضح الآن أن الموجه الأساس لهذا القانون، هو نتانياهو نفسه.
يمنح القانون امتيازات لليهود، لكونهم يهوداً في كل مجالات الحياة، من تعليم وعمل، وينتقص من مكانة اللغة العربية، التي يعتبرها القانون لغة رسمية، رغم عدم احترام القانون. ولكن يبقى من اللافت أن الغالبية الساحقة من بنود هذا القانون مطبّقة على أرض الواقع منذ عشرات السنين، مع بعض الاستثناءات، ولكن القانون المقترح هو عملية لتثبيت هذه السياسة وجعلها إلزامية، بمعنى جعل العنصرية سياسة إلزامية لمؤسسة الحكم، وليس فقط توجهات سياسية غالبة على عقلية الحكم، ولو من تحت قبة المحكمة العليا.
وعلى طريقة تصريحات السياسيين في السلطة وتصريحاتهم خارجها، وجّه أهارون باراك في مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرونوت" مؤخراً، تحذيراً مبطناً من الأجواء التي يخلقها اليمين والحكومة برئاسة بنيامين نتانياهو، وذكر في هذا السياق النظام النازي في ألمانيا. وقال إن "المحكمة العليا في ألمانيا، في بداية الثلاثينات، لم تتمكن من إلغاء قوانين. ولدي قناعة كاملة بأنه لو كانت في ألمانيا حينذاك محكمة قوية وانتقاد قضائي، لكان بالإمكان منع (الزعيم النازي أدولف) هتلر. ولكن عندما أصبح في الحكم أصبح مستحيلاً المس به".
وأكد باراك أن "النواة الديموقراطية في إسرائيل هشة، لأن هناك ثلاث ظواهر تجعلها هشة. الظاهرة الأولى، هي أن جذورنا الديموقراطية ليست عميقة. والهجرات اليهودية المختلفة، لم تأت في معظمها من ثقافة حكم ديموقراطي. كذلك فإن التربية والتعليم في إسرائيل لا يعمقان الجذور الديموقراطية. لذلك، فإنه بالنسبة إلى معظم سكان إسرائيل، فإن مصطلح "الديموقراطية" يعني حكم الغالبية، وهذا مفهوم ضحل جداً للديموقراطية.
وأردف أن "النقطة الثانية هي التوتر الأمني. فنحن نعيش في توتر أمني منذ اليوم الأول (لقيام الدولة) وهذا التوتر لا يتوقف. وعندما يكون هناك توتر أمني، ما الذي يريده الشعب؟ الأمن. والأمن قد ينتهك الحقوق. وقرارات حكم في المواضيع الأمنية تميل إلى المس بحقوق الإنسان".
وتابع باراك أن "العامل الثالث للهشاشة هو غياب ثقافة حكم. وفكرة "ليس مناسباً" ليست موجودة عندنا. وأعضاء الكنيست الذين ليس لديهم ثقافة حكم يطالبون دائماً بضبط النفس وكبحها من المحكمة العليا فقط... ويجب أن يكون هناك كبح وضبط للنفس من جانب الكنيست والحكومة أيضاً، ولا يوجد أمر كهذا". وأشار إلى أن المحكمة العليا ألغت طوال العشرين عاماً الماضية 12 قانوناً فقط، بينما المحكمة الدستورية في بولندا ألغت 60 قانوناً في عام واحد، وفي كندا تلغي المحكمة ما بين ثلاثة إلى خمسة قوانين في السنة".
وفيما أعلن رئيس حزب "كولانو"، موشيه كحلون، وحده من بين كل الأحزاب في الائتلاف، أنه لن يؤيد مشاريع قوانين تهدف إلى إضعاف المحكمة العليا، قال باراك إن "كل المشكلة هي أن المبنى الدستوري عندنا هو مبنى غير مستقر، وفيه خلل وهش، وأية نزوة لعضو كنيست، لديه فجأة غالبية عفوية مؤيدة في الكنيست، بإمكانه أن يقلب كل شيء".
وقال باراك إن هناك قرارات أصدرها كقاض ويأسف عليها، وبينها قرار الإبقاء على احتجاز الأسير اللبناني مصطفى الديراني، وآخرين كـ "ورقة مساومة" من أجل الحصول على معلومات عن الطيار المفقود رون أراد، وأشار إلى أنه غيّر قراره لاحقاً، وأمر بالإفراج عنه.
وهكذا ليس القاضي باراك وحده من يعلن اليوم اختلافه مع سياسة الحكومة الإسرائيلية، ومع سياسة المحكمة العليا التي كان على رأسها، في أعقاب تقاعده وخروجه من الوظيفة، بل هناك عدد من السياسيين أعلنوا ويعلنون عن اختلافهم مع سياسة الحكومة اليمينية المتطرفة هذه الأيام، ومنهم رؤساء سابقون لجهاز الاستخبارات (الموساد)، وإذا جرى تبهيت وتسخيف وإضعاف دور المحكمة العليا الإسرائيلية، فماذا يتبقى من نزاهة القضاء غير النزيه أصلاً في كيان الاحتلال الاستيطاني، والديموقراطية في كيان غير ديموقراطي، والمؤسسات في دولة لا تشبه الدول. إنه النظام كما هي حال النظام أو الأنظمة في بلادنا، حيث الاحتكام للنزعات التعصبية والعنصرية والزبائنية وللتغول المافياوي، على حساب الدولة والمؤسسات والقانون والقضاء كماهيات للدولة الحديثة.
ماجد الشيخ
* كاتب فلسطيني