سألني صديق ما هي الحكمة في أن يكون الحج في الإسلام إلى مكة ولماذا لم يكن إلى القدس مثلاً؟
ومن قبله سألني صديق آخر كيف يقول القرآن عن الكواكب بأنها رجوم للشياطين، ألا يتناقض هذا مع الحقائق الفلكية الحديثة، وثالث يسأل إذا كان الإسلام ذا أطروحات عالمية متجاوزة للبيئة العربية فلماذا يدعونا إلى التفكر في الإبل كيف خلقت، ألم يجد أمثلةً أعظم في التدليل على قدرة الله من مثال الإبل الذي يخص البدوي العربي في صحرائه لكنه لا يعني الإنسان المعاصر.
وفي مجموعة مغلقة دار نقاش عريض كيف نرد على شبهة ملحد يقول لماذا قال الله في القرآن "وحملناهم في البرّ والبحر" ولم يذكر الجو، أليس هو علام الغيوب وألا يفترض أنه يعلم أن الإنسان سيحمل في الجو أيضاً مستقبلاً؟
فكرت أمام هذا النمط من الأسئلة إن كان علي أن أجهد نفسي في مناقشة أصحابها ومحاولة إقناعهم وأنا أعلم أن القضية بالنسبة إليهم جدل ومحاولة لهدم أساس الدين لا أكثر، لكني شعرت بالعبثية أمام المسألة من جذورها، ليس لعجز عن مقابلة المجادلة بمجادلة والإتيان بجواب على كل سؤال، إنما رفضاً للمبدأ ذاته: مبدأ التعامل مع الدين بأنه مجموعة من آلاف الأسئلة الصغيرة المتناثرة التي كلما فرغنا من الرد على إحداها توجب علينا الذهاب إلى التي تليها للرد عليها..
ليست هذه هي طبيعة الدين، الدين روح قبل أن يكون فكراً، الدين مثل الحب مسألة شعور قبل أن يكون إدراكاً عقلياً، فلو قرأ أحدنا مئات الكتب عن الحب فلن يصنع ذلك منه عاشقاً، إنما يكفي أن يتذوق الحب مرةً واحدةً ليصدق به ويؤمن به، وحينها لن تكفي كل الجدالات لزعزعة ثقته في الحب لأنه لم يسمع عنه بأذنه بل عايشه بقلبه فغدا جزءً من كينونته.
الدين هو رزمة واحدة، من آمن به اطمئن قلبه وتذللت أمامه العقبات وسهل أن يتجاوز كل الشبهات دون أن تؤثر شيئاً على عالمه الروحي الداخلي، أما من اتخذ قراراً متعمداً ألا يصدق بالدين لأنه وجد هواه في افتراض عدم وجود إله فهذا لن تنفع معه كل المحاججات، وكلما فرغت معه من الرد على شبهة أتاك بغيرها ولن يعدم أن يأتي بآلاف الشبهات، ليس لأن موقفه قوي ولا لأن موقف الدين ضعيف بل لأن الوقوف موقف التكذيب من أي فكرة أسهل كثيراً من المبادرة إلى الدعوة إليها و برهنتها، فالتكذيب لا يتطلب الانطلاق من رؤية منطقية تجمع بين شتات الأدلة، إنما يكفي فيه نثر الشبهات عشوائياً دون رابط منطقي بينها، أما الذي يدعو إلى فكرة فإنه مطالب بأن يأتي ببنيان متماسك لا تتخلله أدنى ثغرة يمكن النفاذ من خلالها، إن المكذب في موقع الهجوم بينما المصدق في موقع الدفاع، وهذا ما يخيِّل أحياناً لنا أن موقف المصدق ضعيف وما هو بضعيف إنما هو منقاد إلى ألاعيب الخصم وحيله ومضطر لبذل جهد فكري من غير جدوى باتجاه تفاصيل جدلية وألاعيب لغوية و محاججات منطقية خالية من حرارة الشعور بالحقيقة.
يقول الممثل والكاتب الأمريكي ستيف مارتن:
"إنني أضحك ملء شدقي على الفكرة البشرية التي تزعم أن المنطق نجح في تغيير رأي أي أحد من قبل، أو أثبت أي شيء أكثر من قدرة البشر على الجدل. يمكنني أن أجادلك قائلاً إن السماء خضراء إذا أردت، وسوف أقنعك. كيف؟ لأنني أستطيع دراسة كل ما يكفي، لحصار كل رأي تطرحه برأي مضاد، ويمكنني أن أرد على كل حجة لديك تدّعي أن السماء ليست خضراء، وسأجعل رأسك يدور من فرط الأدلة والحجج التي ألقيها عليك "
هذه ليست بالمطلق دعوةً إلى سد باب الفهم والسؤال، فالقرآن في ذات الوقت يراعي طبيعة الإنسان الجدلية ويعتمد معيار البرهان في النقاشات الفكرية، لكن من ينظر إلى الدين بأنه مادة جدل فكري وحسب دون ملامسة روحه سيدخل في دوامة لن تنتهي وستخرج له آلاف التفاصيل التي تبقيه في دائرة الشك المريب وتحرمه من الطمأنينة التي هي من أعظم ثمار الدين في هذه الحياة، إن من حق الإنسان، بل من الواجب عليه أن يسأل ويخوض رحلة بحث فلسفي حتى يصل إلى إجابات شافية يطمئن لها قلبه، لكن أن تكون كل تساؤلاته منطلقةً من نية مبدئية للتصديق حين يتبين له الحق، لا أن تكون هوايةً من أجل الترف الفكري، كذلك فإن طبيعة الفكر هي طبيعة عملية جادة، فالفكر لا يعني الانشغال في مسائل فرعية وتفاصيل تافهة، إنما ميدانه الإجابة على الأسئلة الكبرى، هنا يكون الحديث عن ضرورة تقديم حجج منطقية وبراهين ساطعة وتفنيد كل شبهة لأن الوضوح العقلي للقضايا الكبرى لا يقل أهميةً عن الشعور القلبي تجاهها، وحين تتحقق الطمأنينة القلبية والوضوح العقلي في قضايا الدين الكبرى فسيغني وضوح الرؤية حينها صاحبه عن استنزاف القضايا الجدلية الصغيرة التي لها بداية وليس لها نهاية.
إن الأسئلة الصغيرة لا يصح حتى أن توصف بأنها قضايا فكرية، لأن السؤال فيها غالباً ما يكون ذا طبيعة دائرية جدلية، فلو كان الواقع غيره فسيظل السؤال قائماً، لماذا كانت صلاة المغرب ثلاث ركعات؟ هب أنها كانت أربعاً هل سيغلق باب الجدل؟ سيظل قائماً، هب أن الحج كان إلى القدس وليس إلى مكة سيظل السؤال قائماً لماذا إلى القدس دون غيرها، وهكذا فإن أصحاب مثل هذه الأسئلة يسترون هواهم بغلاف النقاش الفكري وهم أبعد ما يكونون عن حقيقة الفكر.
إن الإيمان تجربة داخلية قبل أن يكون واقعاً خارجياً، فمن عايش هذه التجربة وذاق حلاوتها لن يشعر بفراغ روحي يثير فيه أسئلةً صغيرةً لن يبنى عليها عمل ولن تساهم في صناعة الحياة، أما الذين حرموا من شعور الإيمان فلن تكفي كل المحاججات والبراهين والأدلة المنطقية معهم ليعدلوا عن قرارهم، ولو جئتهم بكل آية ما كانوا ليؤمنوا كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون.
أحمد أبو رتيمة