يثير ملف أسطول الحرية، الذي يقترب من الوصول للمياه الإقليمية الفلسطينية قبالة شواطئ قطاع غزة، أسئلة أساسية، تستوجب قراءة عميقة، مدققة، تتصل بالعلاقة الجدلية المتبدلة بين أشكال النضال، ارتباطاً بالعوامل الموضوعية والذاتية ذات العلاقة مع الصراع الجاري.
أمر هذا السؤال والإجابة عنه ليست مسألة حصرية بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا يتميز هذا الاحتلال عن غيره من اشكال الاحتلال التي شهدتها البشرية عبر العصور، ذلك أنه يرتقي إلى مستوى استراتيجيات خوض الصراعات سواء تعلق الأمر بالصراع ضد الاحتلال، أو حتى بالتعارضات الوطنية الداخلية.
"الأسطول" القادم إلى غزة، هو الثالث منذ فرض الحصار من قبل الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وهو شكل تضامني، يتكامل مع أشكال أخرى للتضامن المباشر، الذي ينطوي على قدر من وعي الحقيقة، ووعي الانتماء، وجدية الدوافع، إلى الحد الذي يستدعي التضحية، وقد أدى في حال أسطول الحرية الثاني إلى مجزرة ذهب ضحيتها عدد كبير من المتضامنين الأتراك.
تحت عنوان كسر الحصار، سيرت جماعات التضامن من مختلف أنحاء العالم، العديد من قوافل الابتسامات، والعديد من المتضامنين الأجانب الذين يخرجون مع الفلسطينيين المحتجين والمقاومين لجدار الفصل العنصري، وضد الاستيطان في الضفة الغربية، عدا أشكال تضامنية أخرى تسبب صداعاً للاحتلال.
بين أولئك المتضامنين، الذين يتساءل المرء عن عمق انتمائهم للقضية الفلسطينية وعمق اقتناعهم بالحق الفلسطيني، خصوصاً وأنهم ليسوا مرضى يائسين من حياتهم، ولا هم من المتقاعدين الذين لا عمل لهم، ولا هم مجانين ومغامرون إلى الحد الذي يكلفهم حياتهم.
نتذكر الناشطة الإيطالية والنائبة في البرلمان الأوروبي، لويزا مورغنيني، ونتذكر النائب البريطاني جورج غلوي الذي تعرض للاضطهاد، والاعتداء الجسدي، وفقد عضويته في البرلمان بسبب تضامنه مع الشعب الفلسطيني، ونتذكر الناشطة الأميركية راشيل كوري، التي سوت مع الأرض جسدها دبابات الاحتلال في رفح، نتذكر أسماء كثيرة، من الأجانب الذين تتزايد أعدادهم كل يوم، وتزداد فعالياتهم ونشاطاتهم من أجل فلسطين وقضيتها وشعبها، ونطرح السؤال عن معنى تدويل القضية، والسؤال عن معنى تصعيد الحركة التضامنية، والسؤال عن مدى أهمية النضال السلمي. بالنسبة لأسطول الحرية الثالث، يعرف الجميع أن إسرائيل حاولت مبكراً، أن تمنع وجوده من الأساس، وأنها استعملت، كل وسائل الضغط والتدخل، لمنعه، لكنها لم تفلح.
لا ترغب إسرائيل في أن تواجه فضيحة أخرى، وأزمة أخرى مع المجتمع الدولي، وليس بمقدورها أن تغادر طبيعتها العنصرية الإجرامية حين يجد الجد، وتجد نفسها في مواجهة تحد من النوع الذي يصر عليه المتضامنون، ولذلك فإنها تبدأ بمراقبة حركة الأسطول منذ انطلاقته، ثم وصوله إلى شواطئ اليونان، وطائراتها ترافق حركة الأسطول في عرض البحر.
المتضامنون يرفعون شعاراً ينطوي على التحدي بالحق، ودون أسلحة حتى البيضاء منها، ولكن إسرائيل لا يمكن أن تخضع لمنطق العدل، والحق والسلام. قد تحاول إسرائيل تجنّب ارتكاب مجزرة أو جريمة ضد المتضامنين على غرار ما وقع مع أسطول الحرية الثاني وركاب سفينة مرمرة التركية، حتى لا تستدعي ردود فعل دولية غاضبة، ولكنها ستعمل بأية وسيلة لمنع الأسطول من الوصول إلى شاطئ غزة.
مخطئ من يعتقد وثمة من يعتقد أن هناك ربطا بين أسطول الحرية الثالث، وما يدور في كواليس الوساطات والمفاوضات غير المباشرة بشأن هدنة طويلة، توافق إسرائيل مقابل ذلك على جملة من التسهيلات بضمنها ممر بحري لسكان غزة.
الأمر ليس على هذا النحو، والأرجح أن لا تسمح إسرائيل بوصول أسطول الحرية إلى غزة، وهي بغنى عن أي عربون من نوع السماح للأسطول بالوصول، كإشارة إلى استعدادها لقبول شروط حماس.
والآن نعود إلى السؤال الأساسي، وهو هل يمكن هزيمة المشروع الصهيوني من خلال استخدام العنف والكفاح المسلح كل الوقت؟ بعيداً عن الجدل المتشكك بشأن أحقية الشعب الفلسطيني في استخدام كل أشكال النضال ضد الاحتلال، وهو حق كفلته مواثيق الأمم المتحدة، فإن المصلحة الوطنية والرغبة في تحقيق الأهداف، واختصار الزمن، وتقليل الثمن، يستدعي التفكير في كل مرحلة بما يناسبها من أشكال النضال.
لا شك أن المقاومة، والدم والتضحيات قد ساهمت بشكل كبير في لفت انظار المجتمع الدولي لوجود أزمة هنا في فلسطين، وانها ساهمت في توسيع وتعميق دوائر التضامن الدولي، وان الفلسطينيين بحاجة كل الوقت لاستظهار أزمة الاحتلال، أمام عالم يبحث عن مصالحه، ولكن ما يؤشر عليه اسطول الحرية، يذهب إلى عملية التثمير الجدي، المتراكم إلى أن ندفع إسرائيل دفعاً إلى قفص الاتهام والمحاكمة على ما ترتكبه من جرائم. فلنتصور معاً أن الكل الفلسطيني، يتجند، ويقوم بتجنيد كل عناصر القوة للجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية في المجتمعات الغربية، وأن الكفاح السلمي الذي يقدم الشعب الفلسطيني على حقيقته كضحية ويقدم إسرائيل على حقيقتها كجلاد بشع، وأن يتكامل ذلك مع الجهد السياسي والدبلوماسي على المستوى الدولي. هذا هو معنى التدويل فالأمر ليس محصوراً في مؤسسات الأمم المتحدة، ذلك أن التدويل الحقيقي يكون بتغيير وعي المجتمعات الإنسانية، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تغيير السياسات.
طلال عوكل
29 حزيران 2015