الممثل الفلسطيني السوري تيسير إدريس… العاشق الذي لا يسمح للأمل أن ينقطع

يعزِفُ الفنّان تيسير إدريس على وتر اللاجئ الفلسطيني السّوري، الذي يعيش "التّغريبة" للمرّة الثانية، فيُطرِب ويُجيد، وقد تنقطع كلّ سبل الحياة في وجه شخصيّة "أبو ليلى" التي يلعبها ضمن مسلسل "غداً نلتقي"، ولكنّه لا يسمح للأمل أن ينقطع عن أنفاسه، هو الفلسطيني العاشق دوماً رغماً عن النّزوح، هو الذي يُراقب خطوات شبّان الدّبكة الشّعبيّة بشغف مراهقٍ مُستكشف، وتُعيده لعبة كرة قدمٍ بين الصّبية المُشرّدين طفلاً بقلب أبيض، وهو الذي ينكفئ أيضاً على نفسه في آخر الليل عجوزاً تعيساً لاجئاً في غرفة صغيرة ضمن بناء مدرسي في لبنان.
في المسلسل السوري "غداً نلتقي" يكثرُ حديثٌ وغزلٌ – وهو في مكانه للأمانة – عن الممثّلة السورية كاريس بشّار التي تجسّد شخصيّة "وردة" اللاجئة السورية بإتقان عالِ وعفويّة افتقدتها اليوم الكثيرات من بنات جيلها، وتذهب الأضواء أيضاً إلى حبيبها "محمود" الذي يلعبه بتمكّن الفنان عبد المنعم عمايري، ولكن لا أحد يُضيء على شخصيّة "أبو ليلى" اللاجئ الفلسطيني المتهوّر تارةَ، الحنون والمجنون تارةَ أخرى والمُتصابي دائماً، هذه الشّخصيّة التي يلعبها الفنان الفلسطيني السوري تيسير إدريس بكل ما تحتاجه من تناقضات وتعقيدات وخصوصيّة وجنون يشبه جنون الحرب الدائرة في البلاد.
يحمل خط شخصيّة "أبو ليلى" في المسلسل ذنباً لا يُغتفَر، ويقلب كلّ الموازين ليكون "الأب العاق"، سيّما أنّه يكون السبب في تعاسة ابنه الشّاب "غيفارا"، بعد أن بدّد ذلك الأب كل ما يملكه ابنه في لعبة قمار، مشاهد إنسانيّة عالية الحساسية تظهر من خلال محاولة "أبو ليلى" استجداء الغفران من ولده، الذي يرفض أي شكل من أشكال المصالحة بينهما، ولكن الأب لا يستسلم ويعاود المحاولة مراراً ليجد الصّد في كل مرّة، ورغم بشاعة ما فعلته الشّخصية باستهتارها وتدميرها حلم ابنها ومشروع حياته، إلّا أنّ إدريس استطاع القبض على نبضات قلوب المشاهدين وتعاطفهم، وهنا يؤكّد هذا الممثّل ما كان مُؤكّداً حول أدائه الدرامي الإستثنائي الواضح والمُربك والعميق، بعد أن استطاع تحويل الشخصية السلبية إلى شخصية مُحبّبة، وبعد أن حوّل دور كان سيمرّ مرور الكرام مع أي فنان آخر، إلى شخصية تشع بريقاً ولا تقلّ أهميّة عن الشخصيات المحوريّة في العمل.
عندما يحبّ السوريون فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وعندما يحب الفلسطينيون سوريا أكثر من السوريين أنفسهم.. هكذا تكون القضيّة! نص "غداً نلتقي" المُغرِق في الحالة السّوريّة لم ينسَ الوجع الفلسطيني، الذي لم يعتبره السوريون يوماً إلا منهم وفيهم، فعندما غادر السوريون أرضهم مهجّرين من الحرب، غادر معهم الفلسطينيون أيضاً، وعاشوا ما عاشوه سويّاً، وستطاع كل من كاتبي العمل إياد أبو الشامات ورامي حنّا إعادة الهمّ الفلسطيني إلى الواجهة الدرامية من جديد، بعد أن أسقطت غالبية المسلسلات السورية من حساباتها الحديث عن القضية الفلسطينية مع بداية الثورة في سوريا.
الفنان الفلسطيني السوري الذي درس الجغرافيا في كلية الآداب في جامعة دمشق، يعرف تماماً كيف ينحت تضاريس شخصيّاته التي يجسّدها، بأداء مُقنع لا يعرف السّهول والمنحدرات وإنّما يستمرّ في الصّعود والصّعود، حاملاً على كتفيه همّ القضيّة الفلسطينيّة مُعبّراً عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فكان أوّل عمل تلفزيوني شارك فيه فلسطيني بامتياز، يومَ أطلّ ضمن مسلسل "عز الدين القسام" المجاهد السوري الذي غادر سوريا وتوجه إلى فلسطين للمشاركة في النضال ضد الإحتلال الإنكليزي، كذلك يكاد لا يخلو أي عمل سوري خُصّص للحديث عن القضية من تواجد إدريس فيه، فمن مسلسل "الشّتات" الذي جسّد فيه دور مؤسس الحركة الصهيونية "تيودور هرتزل"، إلى مسلسل "عائد إلى حيفا"، الذي يصوّر رحلة التشرد والعذاب والآلام بعد نكبة 1948، مروراً بمسلسل "عيّاش" الذي يروي قصة الشهيد الفلسطيني يحيى عياش أثناء جهاده السري في الأراضي المحتلة، ليشارك بعدها في "سفر الحجارة" الذي يروي أيضاً المعاناة الفلسطينية، ثمّ مسلسل "أنا القدس" الذي تضمّ أحداثه ثورة البراق والثورة الفلسطينية، والانتفاضة الكبرى، وصولاً مسلسل "في حضرة الغياب" الذي يرصد سيرة حياة الشاعر الكبير محمود درويش.
لا عمل درامي يمكن أن يُعبّر عمّا حلّ بالسوريين بعد الثورة، كذلك لا يستطيع أي مسلسل أن يعبّر عن ألم الفلسطيني السوري، الذي لم ير سوريا يوماً إلّا وطناً له، وبحكم عادة أجداده بالاحتفاظ بمفتاح العودة الذي أضحى رمزاً يُعبّر فيه من غادروا فلسطين عام 1948 عن حلمهم بالعودة، يحتفظ هو الآخر بمفتاح بيته في سوريا الذي كان على الأغلب في "مخيم اليرموك" جنوب دمشق – أكبر تجمّع للفلسطينيين في سوريا- رغم أنّه يعلم أن الحرب دمّرت البيت وأبوابه، ولكن كيف لك أن تُقنع فلسطينياً بألّا يتمسّك بكل هذا الأمل في الذكرى و"حق العودة إلى سوريا"، هو الذي يحبّ الحياة على طريقته الخاصة.. يحبّها على الطريقة الفلسطينية كما غنّتها يوماً كاميليا جبران "أعيشك بالمحل تيناً وزيتاً وألبس عُريك ثوباً مُعطّر .. وأبني خرائب عينيك بيتاً وأهواك حياً وأهواك ميتاً".
تيسير إدريس الذي وُلِد في سوريا وتحديداً في "دوما" يعتبر أنّه دخل الجنة، يومَ زار بلده فلسطين للمرّة الأولى في حياته، كان ذلك عام 2009 ضمن وفد الفنانين الفلسطينيين المقيمين في سوريا إلى غزّة، حينها استذكر ما قاله له والده الشيخ زامل إدريس عندما كان طفلاً صغيراً "إن شممت رائحة فلسطين وأمسكت ترابها فسوف تدخل الجنة".

نقل عن/ القدس العربي

المصدر: عمان - وكالة قدس نت للأنباء/ أروى الباشا -