قبل يومين، وصل إلى بريدي بيان صحافي موقع من قبل الدكتور محمد النباري، رئيس المجلس المحلي في قرية حورة التي في النقب، وفيه يقول: "على أثر ما نشر في وسائل الإعلام، في ما يتعلق بتورط عدد من الشباب، مواطني حورة، في نشاطات غير قانونية ودعمهم لتنظيم "داعش"..
وفي حالة التأكد من أن ما نشر كان صحيحًا، فإننا نعبر عن رفضنا لكل فعل متطرف ينادي بالعنف والتحريض أيًا كان.. "من جهتها، أكّدت وزارة العدل الاسرائيلية، تقديم نيابة لواء الجنوب، عددًا من لوائح الاتهام بحق خمسة أشخاص، بعضهم عملوا معلّمين في قريتهم حورة وفي رهط، واتهمتهم بدعم "داعش" والتخطيط للانضمام الفعلي إلى صفوفه في سورية، وتفاصيل أخرى.
حورة ليست الأولى، ففي اكتوبر المنصرم، وبعد الكشف عن انضمام مجموعة من المواطنين العرب سكان شمال إسرائيل إلى "داعش"، انبرت قلة من قيادات مجتمعنا وتصدت لحملة يمينية مسعورة استهدف مطلقوها الجماهير العربية في البلاد، التي اتهمت كلها بالدعشنة وإرهابها. معظم المتحدّثين نفوا وجود ظاهرة الاستدعاش بيننا، وأكدوا أن انضمام حوالي ثلاثين شابًا عربيًا إلى صفوف "داعش" يبقى مجرد سقطة لبضعة شباب ضلّوا الطريق ووقعوا في الفخ. ومن أبرز المتصدين كان رئيس حزب التجمع السيد واصل طه، الذي صرّح كذلك، "مع ذلك، يجب أن يعوا حقيقة أن داعش هي من صنيعة أمريكا ودول غربية وشرق أوسطية، ولها أجندات جهنمية.. ويجب أن نوعي شبابنا.. لحمايتهم..".
"داعش" صنيعة أمريكية إسرائيلية، هكذا أجمع عرب كثيرون بعيدًا عن أرض سورية والعراق، وبالتزامن مع كشف خلية حورة، انهمكت هذا الأسبوع، شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام المحلي، بتداعيات إفطار تلاه نشاط ثقافي بادرت إليه ونفذته مجموعة من شبيبة حزب التجمع في مدينة أم الفحم. تخلل الليلةَ عرض لفرقة دبكة شعبية شاركت فيها مجموعة من الشابات إلى جانب الشباب، مما استدرج حملة هجوم عنيف على من بادر وشارك، لأن من نصّبوا أنفسهم سادة على تعريف الجريمة وتحديد العقاب، وكمفوضين باسم السماء على الأرض، قضوا وأفتوا بكون الدبكة حراما والاختلاط خطيئة، والفن مصيبة والرقص خلاعة كبيرة، وما جرى في أم الفحم كان بنظرهم، كفرًا، فبدأت، كما وصف أحد المواقع: "جوقة التحريض، في أعقاب ما كتبه ناشط، عضو في الحركة الإسلامية الشمالية، على صفحته في الفيسبوك، تحريضًا.. أدّى لإطلاق حملة كبيرة شنّها بعض من المتشدّدين على المشاركين وصل الحد خلالها إلى نشر صور أسلحة ودعوات للقتل بحق الشبّان والشابات".
قيادات في حزب التجمع تصدت لتلك الحملة الدموية، أمّا جريدة "الاتحاد" الحيفاوية فخرجت، بدورها، وكتبت بالبنط العريض "لا تواطؤ ولا تخاذل في مواجهة الأصولية"، ومن ناحيته صرخ القيادي التجمعي والمحاضر أشرف قرطام معلنًا: "لم ولن نسمح لذلك بأن يحصل.. داعش بيننا ولكننا سننتصر".
"داعش" بيننا.. من سينتصر؟
لا أعرف إن كان من حقي أن أصرخ كما صرخ أشرف قرطام وأعلن: "داعش بيننا"! لكنني، أفهم من استبعد أننا نواجه ظاهرة الداعشية بين ظهرانينا، ولكن لا أجد في هذه الخلاصة سببًا للراحة والاطمئنان، فأولئك الذين نفوا وجود جاهزية عقائدية واستعداد واسع بين الشباب المسلم في مجتمعاتنا لانضمامهم إلى صفوف "داعش"، أكدوا، في الوقت نفسه، أن "داعش" صنيعة أمريكية إسرائيلية، وإذا كان هذا الكلام صحيحًا، فكيف لي أن أنام مستأمنًا رحمة إسرائيل، وهي التي تستعدينا، وهي أيضًا، كما قيل، القادرة على تصنيع وتشغيل وتوجيه الدعاديش؟
من المرجّح أن لا نواجه "داعش" هنا وبيننا، فمن شروط نشوئها واندعاشها، وجود دولة فاشلة، يشم الداعشيون وأربابهم رائحة الموت عليها وهي تحتضر، وينقضّون فيبقرون بطنها، ويدعونها تلفظ أنفاسها الأخيرة بعذاب، قبل أن تصير دولة جيفة. لم نكن بحاجة إلى صور الكلاشنكوفات والدم لإيصال رسائل الرعب والتهديد لمن دبك في أم الفحم متزنرًا بكوفية فلسطين وقنباز جده، فمنذ سنوات تشهد مجتمعاتنا هجمات ضارية على فضاءاتها الفكرية ويرزح حيّزها العام تحت حصارات أدّت إلى تقليص تلك الحيّزات بشكل ملحوظ، مما أتاح فرصة، في بعض المواقع، لهؤلاء أن يتحوّلوا إلى ضبّاط إيقاع، يتحرك الناس على نقر أصابعهم أو يُحرّكون كأحجار في لعبة الشطرنج.
"داعش" هناك.. داعس هنا
والداعسية، ليست حكرًا على دين بعينه، لأنها تعني إيمانك المطلق بصحة رأيك وعقيدتك، و"دعسك" على كل من يختلف معك برأي وموقف. والداعسية، هي قناعتك أنك تمتلك، وحيدًا، الحقيقة المطلقة، ولك عليها براءة الخلق والاختراع، و"التدعيس" على غيرك، لأنه الآخر المختلف.
والداعسية، تحوّل أصحابها إلى عسس بيننا وقضاة علينا وعشماويين باسم أنفسهم، ينطلقون، كرياح تملأ الأرض؛ لهم ما يشاؤون، إن رضوا أجازوا وإذا غضبوا أناحوا وأناخوا. لقد تخطّت مجتمعاتنا مراحل التخمير والإنبات، فمنذ سنوات، وليس على الرغم من أنف إسرائيل، نمت في قرانا ومدننا دفيئات ربت وأنتجت عقولًا بشرية لا تؤمن بحرية الفكر والعبادة والتعبير والحياة، وبعضهم يؤمن بأن الطريق إلى الجنة قد تستوجب الإطاحة برأس امرأة حرّة لا تحتشم! أو بقر بطن مرتد خائن؛ فكي ترضي الرب يجب أن تقدم له قرابين الدم، وهذه لن تقدّم، بالضرورة، على مذابح تدمر والرقة وسرت فقط!
لقد استشعرت القيادات العربية مدى الخطورة مما تعرضت له شبيبة التجمع من تهديد، كمًا وكيفًا، ورفض جميع المتحدثين ما واجهه الشباب من لغة تهديد ووعيد وتكفير وحسمت "الاتحاد" موقفها بصراحة بالغة وقالت بلهجة لافتة وغير مألوفة: "إنّ المعركة مع هذا الفكر الظلامي ومع أصحابه من تجّار الدين والطائفية، باتت حاجةً ماسةً، لا تقل إلحاحًا وضراوةً عن صراعنا مع الحركة الصهيونية".
وحورة لن تكون الأخيرة..
فالداعشية لن تتوقف بصحوة ضمير ولن يفيق جندها طواعية راضين مرضيين، وقد تستفيد إسرائيل من تلك الداعشية هناك، خاصةً، والمجاهدون باسمها ينسفون كيانات سياسية عربية إسلامية كاملة، لكنّها، مع هذا، لن تسمح بها على أراضيها؛ فجل ما تبغيه إسرائيل لعرب البلاد أن يتفرقوا ويتنابذوا ويتحاربوا، وهي، من أجل ذلك، قد تغض الطرف عن "داعس" هنا، حين تؤدي ممارسة جنوده، إلى تقطيع وشائج مجتمعاتنا، وحين تنفّذ فرقه سياسة، "فرق، وادعس تسد". فهل ستنجح تلك السياسة؟
ولمن ستدوم البهجة، للسيف أم للدبكة؟
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس