عام على العدوان الملعون (2-3)

بقلم: مازن صافي

بعد أسبوعين من بدء العدوان الملعون، تحولت غزة الى كتلة من الركام ممزوجة بالدم والأشلاء والكبرياء وإرادة البقاء، هكذا هرعوا خارج البيت مسرعين، كان الوقت المتاح من جانب الاحتلال "3" دقائق، لكي يتم القصف، كان هناك "الأطرش" لم يسمع النداء، وتم نسيانه، ليدخل الوالد برغم كل شيء، قائلا: " يا بنموت سوا، يا بنعيش سوا"، وبعد ثوانٍ تحول البيت المكون من 4 طوابق إلى ركام، وخرج "الأطرش" من بين الركام ينبض بالحياة، وبعد ساعتين تم إعلان "استشهاد" الوالد.

القرى الشرقية في خانيونس، وبلدة القرارة، وكثير من المناطق الحدودية، تحولت الى مناطق رعب، خالية من السكان، ويخرج البقية من الموت مندهشين، ورعب يسابقهم في الطرقات، إنها رحلة الخروج من الموت الى الحياة القاسية جدا، وكثير من البيوت أصبحت حدودا ملاصقة لدبابات الاحتلال، وأما أسطح المنازل فأصبحت صواريخ الحقد تحتلها لتحولها الى ركام، كانت هناك بيوت جميلة وجلسات هادئة وأشجار مثمرة، وتحولت كل الأشياء الى أشباح وحرائق وركام، وأصوات انفجارات لا تتوقف بالليل او بالنهار.

في ليلة واحدة في النصف الثاني من تموز استقبلنا 11 شهيدا من عائلة الأسطل، وأما قرية خزاعة المدمرة فقد ظهر صباحها ملون بالدماء والأشلاء والجرحى والنازحين وكثير من الشهداء، كانت مجازر لا تتوقف، وكنا لا نتوقف ونتوقع كل شيء، و حتى فجر 24/7 كان عدد الشهداء الذين استقبالهم في ذلك اليوم يزيدون عن 42 شهيدا، واستشهدت اسرة المواطن حسين النجار من بلدة خزاعة بعد أن نزح الى قلب المدينة، ليقصف البيت ويتطايرون أشلاء شهداء، لقد استشهدت العائلة جميعها الأب والأم والأخوة والأخوات وزوج الأخت وزوجته الحامل وأولادهم، وشكل هذا مزيدا من الضغط النفسي للطاقم الطبي "المنهك" الذي هو في النهاية يتعامل مع اخ له او قريب او جار او انسان عزيز عليه،  مطلوب ان تخمد العواطف حتى وقت لاحق، وهنا علينا أن نرفع قبعاتنا الى ذاك الجراح البارع الذي لم يتوقف عن اجراء العمليات، ولكن استشهاد شاب بعد ساعتين من العمل المتواصل والمعقد معه، قد أبكاه بصوت سمعه الجميع، وكان الجميع يردد حسبنا الله ونعم الوكيل.

اليوم الــ21 للعدوان على غزة، ومنذ اللحظة الأولى للعدوان، أكثر من 6000 جريح أي تقريبا  13 جريح كل ساعة، وأكثر من 1050 شهيد أي ما يزيد عن شهيدين كل ساعة، إنه العدوان الملعون والمجازر الإجرامية وانتهاك أبسط حقوق الإنسان، و  غزة مازالت تتنفس الحياة برغم الدماء والتشريد والدمار الكبير.

اليوم الأول لعيد الفطر المبارك، وهو اليوم 22 للعدوان، الإثنين 28 تموز 2014، كان عدَّاد أيام العدوان وأعداد الشهداء هم الوقت المتفجر فينا، في غزة مع تكبيرات العيد، صمتت كل الكلمات، يصرخ الجرحى من وجع أطرافهم المبتورة، وبعضهم بقي في الغياب، وبعضهم غادر ليلتحق بمن سبقوهم شهداء.

 في غزة الشوارع امتلأت بالناس، كثير منهم مشردون، كثير منهم غادروا بيوتهم تحت قصف الموت والرعب، والبعض عاد ليعود شهيد الساعة السادسة مساء، كان صوت السيدة التي تقترب من الستين من عمرها، يخرج مرتجفا وتكرر بلا توقف :"يا رب خلي لي واحد، وفي ذلك المساء بدأنا في استقبال الأطفال الشهداء بعد قصف بناية من أربعة طوابق يقطنها العشرات من المواطنين من عائلات مختلفة، لم يسلم أحد، كلهم جاؤوا شهداء، إلا طفل لم يتجاوز الستة سنوات، جاءت أمه، كانت تعدّد الشهداء الأطفال بالأسماء، وعند هذا المسجى في قسم الطوارئ كانت تدعو بصوت مسموع، يا رب خلي لي واحد، يا رب واحد وبس، كلهم ماتوا، ولكنه كان بالفعل قد فارق الحياة، وبقيت وحيدة حتى سقط مغشيا عليها.

اليوم 24 للعدوان، وعدد الشهداء يقترب من 1400 شهيد وثمانية آلاف شهيد، و مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة لم يعد يتسع لاستقبال مزيد من جرحى جدد لأنها شُغلت تماما ونفذت الكثير من المواد الطبية، مثلما مجمع ناصر الطبي في جنوب القطاع، وقد تحولت المستشفيات الى مكان للايواء في ساحاتها واستخدام كل مرافقها وطاقتها ومواردها، وكان عدد المصابين يزداد بأعداد كبيرة ومستمرة وضاغطة على المنظومة الطبية التي  بدأت تتأثر كثيرا، ولكن إرادة البقاء والصمود أقوى، هذا لسان كل الطواقم الطبية .

أكثر من ربع مليون فلسطيني أصبحوا الآن في العراء والتهجير وبلا مأوى وبالحد الأدنى من تقديم مقومات البقاء للحياة وهذا لا يمنع من ظهور متفرقات اجتماعية ضاغطة حين تكون في الغرفة الواحدة في مدارس الإيواء أكثر من 50 سيدة ويبقى الذكور في الساحات او خارج المدارس، يوجعنا هول الارهاق الجسدي ، و هول فاجعة الناس، كنت امر في الشوارع وامشي ولا تبكي عيوني وهي بحاجة الى البكاء بلا توقف ..ولكنها تبكي داخلها بلا دموع، انظر الى الناس واحوالهم وتشريدهم وانتهاء مستقبل بنوه اعوام عديدة، ورأيت من كانوا في قمة الاناقة والسرور يجلسون فوق قطع الكرتون ووجوهم شاحبة وينظرون الى اللاشيء، يتصافحون يسألون عمن بقى من الأحياء او أسماء الشهداء او من بقوا هناك جثث شهداء لم يتمكن انتزاعها من بين براثن العدوان، كثيرة هي الحكايات وأنت تعبر الشارع وانت تنظر الى الناس.

ويستمر،،،،

بقلم/ د.مازن صافي