اضطررت لتقديم الكثير من الوقائع لإقناع صحافية ألمانية جاءتني، يوم أمس، تحمل أسئلة في العمق، لمناسبة مرور عشر سنوات على الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وعام على الحرب الإجرامية التي شنتها إسرائيل على القطاع في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وكانت الصحافية شاهداً عياناً وحاضراً على وقائعها.
من بين ما تطرقت إليه خلال المقابلة الصحافية، استنتاج يفيد بأن إسرائيل تتجه نحو أن تكون دولة دينية عنصرية، الأمر الذي أثار استغرابها لأن العالم اليوم كما تقول لا يمكن أن يسمح بقيام دولة دينية عنصرية ترتكب جريمة ترانسفير واسعة ضد الفلسطينيين. كان علي أن أذكّرها، بأن الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية وبضمنها ألمانيا، كلها تدعم الطلب أو الشرط الإسرائيلي الذي يتمسك بيهودية الدولة، وان آخر ما ورد، جاء في نص كجزء من المبادرة الفرنسية إلى مجلس الأمن، والتي تراجعت فرنسا عنها.
إسرائيل التي يحكمها تحالف اليمين المتطرف والأشدّ تطرفاً، هي الأخطر على الدولة، لكن الدول الغربية الحليفة لها تساهم بقدر وافر من الأسباب التي تدفعها نحو حتفها المؤكد وإن طال الزمن. أحد أبرز الكتّاب الإسرائيليين، ألون بن مئير كتب مقالة قبل ثلاثة أيام، يحذر فيه من استمرار السياسة الإسرائيلية التي تنزلق أكثر فأكثر نحو العنصرية.
بن مئير انتقد سياسات الولايات المتحدة والدول الغربية التي تمارس سياسة الدلال للدولة العبرية، وتقدم لها الدعم الوفير، الأمر الذي يشجع الساسة الإسرائيليين على مواصلة السياسة ذاتها التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى أن تدمر إسرائيل نفسها.
هذا الخطاب مقروء بالنسبة للفلسطينيين، وتساهم السياسة العامة الفلسطينية في فضح الطبيعة العنصرية والفاشية للدولة الإسرائيلية، لكنها أي السياسة الفلسطينية تخدم في الأمد القريب السياسة الإسرائيلية الرامية لمصادرة الحقوق الفلسطينية وتقزيمها إلى دولة في قطاع غزة، والإمعان في شرذمة الشعب الفلسطيني.
سألتني الصحافية الألمانية، فيما بدا وكأنها اقتنعت بما أقول عن الخيارات الفلسطينية في مواجهة هذه المخططات الإسرائيلية، فكان جوابي تقليدياً ممجوجاً، وهو أن المصالحة الفلسطينية هي مبتدأ الكلام. أعرف أن الجواب ناقص فأكملت لها ان المجتمع الدولي والمقصود الدول الغربية، تتحمل مسؤولية جدية إزاء تأكيد التزامها عملياً، برؤية الدولتين، ولمحاصرة السياسة الإسرائيلية التي تتصادم مع الموقف الدولي.
شعرت بالخجل وأنا أتحدث عن المصالحة الفلسطينية كمدخل لإفشال المخططات الإسرائيلية، لأن الفلسطينيين بدلاً من ذلك، يمعنون في تعميق الانقسام، ويقدمون لإسرائيل أفضل الفرص لفرض مخططاتها. القيادات الفلسطينية إما أنها لم تعد تعرف ماذا تفعل وإما أنها مقصرة في شرح استراتيجياتها، وخطواتها المقبلة لمجابهة المخططات الإسرائيلية.
في هذا الاطار، لا يمكن للعقل السوي، أن يعفي أيا من الطرفين فتح وحماس من المسؤولية عن هذا الوضع الهابط، والمتردي. بإمكان الطرفين أن يواصلا، اتهام بعضهما البعض بالمسؤولية عن إفشال المصالحة، وتعطيل عمل حكومة الوفاق التي فقدت رجليها وتحولت إلى أداة معاقة لا تستحق أن يتابع المواطن أخبارها.
قبل أن نتحدث عن التدمير الذاتي الذي تمارسه القيادة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، علينا أن نقف ونفكر ملياً في سياسة التدمير الذاتي التي يمارسها الفلسطينيون بحق أنفسهم وشعبهم وقضيتهم. في الخيارات لم نعد نعرف ما هو خيار السلطة والقيادة الفلسطينية في ضوء ما آلت إليه الأمور، وبعد اعتراف معظم أفرادها بأن طريق أوسلو وصل إلى فشل ذريع، فيما تتجاهل هذه القيادة، الدعوات التي أخذت تتصاعد في أوساط النخبة السياسية والثقافية الفلسطينية، التي تدعو للمراجعة الوطنية الجماعية، وإلى دعوة الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير.
لا تزال هذه القيادة تتجاهل أوضاع المجتمع، وهمومه المتزايدة وتواصل الالتزام بكل ما يخدم مصالح إسرائيل وأمنها، ومخططاتها، أما الحديث عن المقاومة الشعبية والسياسية فهو فقط لتأكيد خطابها الملتزم بالسلام والموجه للمجتمع الدولي.
من ناحية ثانية، تمضي حركة حماس في خياراتها المنفردة نحو البحث عن حلول لقطاع غزة، طالما أن المصالحة قد أصبحت في خبر كان، وتشيح بوجهها عن الصرخات المتعالية التي تحذر من مخطط دولة غزة، فلقد أقفلوا وهي ساهمت في إقفال كافة الخيارات سوى هذا الخيار. بصراحة إذا كانت الدعوات والصلوات لا تكفي لتصحيح الأوضاع، بل إنها لا تصل إلى عقول المعنيين حتى إن وصلت إلى آذانهم، فإنه لم يعد أمامنا سوى مطالبة الفصائل الأخرى ومنظمات المجتمع المدني، والنشطاء والنخب، إلى توليد جبهة إنقاذ تضغط على الطرفين فتح وحماس، هذه الدعوة ليست جديدة، لكنها كما يتضح لم تكن قابلة للتنفيذ، أما الآن فإن وصول السكين، إلى الرقبة، يستدعي هذه المحاولة الأخيرة قبل أن نعلن بأنفسنا انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، والانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها نكبة جديدة.
طلال عوكل
16 تموز 2015