لقد وجدت إيران، والقوى العظمى في الاتّفاق المبروم بينهما مصالح مشتركة، حيث تسعى إيران من وراء هذا الاتّفاق إلى تخفيف أعباء الحصار الاقتصاديّ المفروض عليها؛ نتيجة لبرنامجها النّووي. بينما ترى القوى العظمى في هذا الاتّفاق الوسيلة المناسبة؛ من أجل لَجْمِ الخطر النّووي الإيراني تجاه مصالحها في المنطقة، وتجاه حليفة الغرب (إسرائيل)، الّتي لا تستوعب سوى ضرب طهران؛ من أجل ثنيها عن امتلاك القنبلة النّوويّة. كما أنّها لا تؤمن بالطّرق السّياسيّة، والدّبلوماسيّة لحلّ الملف الإيراني مع المجتمع الدّولي؛ لذلك تستمرّ (إسرائيل) في حملتها المتواصلة، والمسعورة على الرّئيس الأمريكي (باراك أوباما). إذ كان آخر هذه الحملات أنّ رئيسين أمريكيّين، يوجد تشابه بينهما؛ من أجل وصول الوحش الإيراني إلى مستوى يجعل منه القوة الأكبر في الشّرق الأوسط، فقد ساهم (جيمي كارتر) كثيرا في إسقاط نظام الشّاه، الذي كان يقمع حقوق الإنسان، ويتصرّف ببربريّة؛ لكنّه فتح الباب الرّئيس أمام الجمهورية الإسلاميّة برئاسة (آية الله خميني). وبعد (36) سنة، يمنح (أوباما) الورثة في طهران، المفتاح؛ لفرض سياسة الشّرق الأوسط حسب المصلحة الإيرانيّة.
إسرائيل ترى أن الأضرار الّتي تسبّب فيها الرئيسان، فيما يتعلّق بالموضوع الإيراني هي حقيقة واقعة، ومواجهة إرثهما تستوجب من إسرائيل، والسّعوديّة، ومصر، والأردن، ودول الخليج –وربما تركيا– البحث عن كيفيّة التّعاون الأمني؛ من أجل كبح طهران النّوويّة الإرهابيّة، أو الإرهابيّة فقط، خلال ال(15) سنة القادمة. لكن السّؤال الّذي يطرح نفسه هنا، في ظلّ البيئة الإقليميّة، والدّوليّة المحيطة بالقضيّة الفلسطينيّة، هو: ما هي انعكاسات الاتّفاق بين إيران، والدّول العظمى على القضيّة الفلسطينيّة؟ وقبل الإجابة عن هذا السّؤال، لا بدّ لنا من معرفة الموقف الإيراني، والإسرائيلي تجاه تسوية القضيّة الفلسطينيّة، ومن ثمّ نناقش الاحتمالات المختلفة، وتداعياتها على القضيّة الفلسطينيّة، بعد الاتّفاق النّووي الأخير.
إنّ موقفيّ إيران، وإسرائيل من تسوية القضيّة الفلسطينيّة كلاهما يتقاطع عند نقطة محددة، فـإسرائيل ليست في عجلة من أمرها؛ لتسوية القضيّة الفلسطينيّة، ما دام الاستيطان يسير على الوتيرة المخطّط لها، فلا ضغوط دوليّة جادّة عليها في هذا المجال. كما أنّ إيران، لم تطرح القضيّة الفلسطينيّة على الدّول العظمى، ولم ترَ جدوى في طرح القضيّة الفلسطينيّة خلال المفاوضات الّتي كانت دائرة بينها، وبين الغرب؛ لأنّها ترى في الجانب النّووي، وقضايا الحصار، والقطيعة الدّيبلوماسيّة، وعلاقاتها مع دول الخليج، الموضوعات الأكثر إلحاحاً من القضيّة الفلسطينيّة؛ وبالتّالي، أعتقد أنّ القضيّة الفلسطينيّة الآن أمام الاحتمالات الآتية:
الاحتمال الأوّل: قد لا يسهم الاتّفاق النّووي بين إيران، والدّول العظمى، في إحداث أي تغيير تجاه القضيّة الفلسطينيّة؛ وذلك للأسباب الآتية:
1. الدّول العظمى، ستنشغل في مراقبة إيران، أثناء تنفيذها بنود الاتّفاق، كما ترى الدّول الكبرى أنّ الوقت الرّاهن، لا يسمح الدخول في جولات مكّوكيّة بين فلسطين، وإسرائيل؛ سعياً لتقريب وجهات النّظر، والمواقف السّياسيّة، وخلق بيئة مناسبة؛ لاستئناف المفاوضات المباشرة.
2. لم يضع أي طرف سواء إيران، أو الدّول العظمى الملف الفلسطينيّ على مائدة المفاوضات؛ بل كان الشّأن الاقتصادي الإيراني، هو: الأكثر أهميّة للنّظام السّياسي؛ وبالتّالي، كانت الدّيبلوماسيّة الإيرانيّة حريصة على تجنّب الرّبط بين الموضوع الفلسطيني، وموضوع البرنامج النّووي.
3. عقيدة النّظام الإيراني، تقوم على أساس أن إسرائيل عدوّاً لإيران، وكذلك العكس إسرائيل تعتبر إيران، زعيمة الإرهاب، وعدوّاً لها. ومن الصّعب أن تتحوّل عقيدة كلّ منهما من النّقيض إلى النّقيض؛ وبالتّالي، لا يمكن التّعويل على الدّور الإيراني في إطار دخوله على خط التسوية مع إسرائيل؛ لصالح القضيّة الفلسطينيّة.
4. تشوّه العلاقات الإيرانيّة مع حركة حماس؛ بسبب الأزمة السّوريّة، دفع النّظام الإيراني عدم طرح الموضوع الفلسطيني خلال المباحثات مع الغرب.
الاحتمال الثّاني: مد إيران جسوراً من العلاقات مع السّلطة الفلسطينيّة؛ لذا بإمكانها أن تنسج علاقات مع السّلطة الفلسطينيّة في أيّ وقت؛ ولكنّ الوقت الحالي، الّذي يشهد توتّراً بينها، وبين المقاومة الفلسطينيّة، يعدّ فرصة مناسبة؛ لمد تلك الجسور، والهدف من ذلك؛ أن تبقى خيوط القضيّة الفلسطينيّة في يدها، إضافة إلى ذلك؛ حتى تبدي طهران للمجتمع الدّولي أن هناك تحسّن في المكانة الإيرانيّة، وأنّ هناك تغييراً في السّياسات الإيرانيّة، بعد الاتّفاق عن تلك السّياسات، الّتي كانت قبل الاتّفاق. ويقابل هذه الجسور تحرّكات، بدأت تتشكّل لدى السّلطة الفلسطينيّة، ونوايا لدى (محمود عباس). تهدف تلك النّوايا، والتّحرّكات إلى تحسين العلاقات مع الجمهوريّة الإسلاميّة؛ لكنّ هذا التّحرّك، يزعج بعض الدّول العربيّة، كالمملكة السّعوديّة، الّتي تعدّ أحد أكبر الدّاعمين للسّلطة الفلسطينيّة؛ وبالتّالي، قد يكون لهذا التّحرّك تداعيات سلبيّة على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة.
وفي إطار الحديث عن هذا التّحرّك، أعتقد أنّ السّلطة الفلسطينيّة تستخدم التّحرّك تجاه إيران كورقة ابتزاز لإسرائيل؛ من أجل تحريك ملف المفاوضات المجمد.
الاحتمال الثّالث: اهتمام العالم بالقضيّة الفلسطينيّة بعد الاتّفاق مع إيران، وهذا الاحتمال وارد، بدليل أنّ وزير خارجيّة النّرويج (بورغ براندا)، حذّر رئيس الحكومة الإسرائيليّة (بنيامين نتنياهو)، من أنّ إسرائيل، سوف تتعرّض لضغوط كبيرة بعد الاتّفاق حول الملف النّووي مع إيران، الأمر الّذي يتطلّب من الحكومة الإسرائيليّة الجديدة، التّقدّم بمبادرة سياسيّة؛ لتحريك العمليّة السّلميّة في المنطقة. وأعتقد أنّ (براندا)، الّذي يعدّ من أصدقاء إسرائيل، لم يتوجّه بهذه الأقوال ل(نتنياهو) من باب التّهديد؛ بل فضّل توجيهها له من باب النّصيحة.
وعلى صعيد آخر، وما يدعم هذا الاحتمال ما صرّح به عضو اللّجنة التّنفيذيّة لمنظمة التّحرير الفلسطينيّة (أحمد مجدلاني)، الّذي قال في تصريحات إعلاميّة: إنّه سيعاد الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة، كأولويّة بعد انتهاء بعض الأطراف الإقليميّة، التّذرع بالخطر الإيراني.
الاحتمال الرّابع: استمرار تذبذب العلاقة بين طهران، وأذرع المقاومة في فلسطين (حركة حماس، والجهاد الإسلامي)، بعد الأحداث، والمواقف الأخيرة، الّتي حدثت بينهما، والّتي أثرت على عمق علاقتهما. ولعلّ أشهر الأسباب الّتي أدّت إلى خدش هذه العلاقة، هو: موقف حماس من الثّورة السّوريّة، وتجريم (بشار الأسد) لحركة حماس، وتعاطي حركة حماس مع التّغيّرات الّتي حدثت في داخل النّظام السّعودي والتي كان أبرزها تسلّم الملك (سلمان) مقاليد الحكم في المملكة، كما تعوّل حركة حماس بنظرة إيجابيّة على هذه التّغيّرات، الّتي حدثت بعد وفاة الملك (عبد الله)، أما بالنّسبة لحركة الجهاد الإسلامي، الّتي تمرّ بأزمة ماليّة خانقة؛ نتيجة الخلافات، الّتي تعود في الأساس لطلب إيراني من الجهاد إصدار بيان واضح بشأن الأزمة في اليمن، تدعم من خلاله الحوثيّين، وترفض الهجوم السّعودي، الخليجي، وهو ما رفضته حركة الجهاد، وأكّدت على مواقفها بالتزام الحياد؛ وفي مقابل ذلك، تلتزم حركة الجهاد الإسلامي الوقوف إلى جانب محور طهران، دمشق، حزب الله؛ حتّى في ظلّ الأزمة السّوريّة، الّتي دفعت حماس؛ للانسحاب من هذا المحور، ما شكّل أزمة كبيرة في العلاقات، بين حماس، وطهران، ودمشق، وحزب الله، وسط محاولات جديدة منذ الحرب الأخيرة على غزة؛ لتجديد العلاقات.
الاحتمال الخامس: استئناف، وتعزيز طهران لعلاقاتها مع المقاومة الفلسطينيّة، ومواصلة تقديم الدّعم المالي لها، دون الالتفات، أو الرّجوع لنقاط الخلاف وتجاوزها، وهذا الاحتمال ممكن، أن يحدث؛ لكي تستنهض وتحافظ طهران على محورها محور المقاومة، الّذي تزعزع خلال السّنوات الماضية، خاصّة أنّ تقليص الدّعم الإيراني للمقاومة الفلسطينيّة، كان من بين أسبابه؛ تضخّم حجم الإنفاق على النّظام السّوري، وحزب الله، والحوثيّين، والعقوبات الاقتصاديّة عليها من الغرب، ولكن، من المتوقّع بعد رفع العقوبات الاقتصاديّة، ودخول أكثر من (120) مليار دولار على إيران، وانتعاش الاقتصاد الإيراني، أن يحدث هذا الاحتمال.
الاحتمال السّادس: إقدام الدّول العربيّة على التّعاطي مع الطّروحات الإسرائيليّة على قاعدة عدوّ عدوّي صديقي. وتبدأ في التّنسيق، وإقامة علاقات مع إسرائيل تحت حجج، وذرائع مختلفة، وتنسى ملف الصّراع، والقضيّة الفلسطينيّة، وتترك الفلسطينيّين غارقين في خلافاتهم، وانقساماتهم، بدون أي غطاء، أو دعم عربيّ للموقف الفلسطيني، وهكذا تحقّق إسرائيل أكثر ممّا تطمح إليه في الملف النّووي الإيراني
بقلم/ أ.عبد الرحمن صالحة.